أبو إسحاق الشاطبي
الإمام الشاطبي هو إمام المالكية في الأندلس من أعلام القرن 8 هـ، وهو أحد عقلانيين الفقهاء الذين نظروا في الأصول الفقهية وجددوها بشكل عام، اسمه بالكامل " أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي" وتوفى عام (790هـ)
له كتاب الموافقات في أصول الفقه قال فيه كلاما أراه تنويريا يخالف عقائد معظم شيوخ هذا الزمان الذين يقدمون الحديث على القرآن ويجعلون السنة مهيمنة عليه، وفي السطور القادمة أترككم مع كلام الشاطبي مع شرح وتفسير لبعض الفقرات، التي أدعو للتأمل فيها والنظر لتاريخ كتابتها، علما بأن زمن الشاطبي كان زمن ابن تيمية الحراني إمام الأصوليين السلفيين المعاصرين ، فكان الشاطبي بالأندلس بينما ابن تيمية في مصر والشام والعراق
يقول الشاطبي في وجوب تقديم القرآن ووصفه بالمقطوع، وتأخير السنة ووصفها بالمظنونة:
"رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار والدليل على ذلك أمور: أحدها: أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف الكتاب؛ فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل، والمقطوع به مقدم على المظنون؛ فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة" (الموافقات 4/ 294)
وفي هذه الفقرة يقر الشاطبي أمرين اثنين:
الأول: أن السنة ليست مثبتة على جهة القطع واليقين، وهو ما وصفه علماء الأصول (بظني الثبوت) والمقصود بذلك هي الأحاديث النبوية والقدسية أو الموقوفة على الصحابة والمقطوعة للتابعين، كل هذا لم يثبت على جهة القطع عند الشاطبي، علما بأن منهج الشاطبي في العلوم فسر السنة بالحديث خلافا لبعض علماء الأصول الآخرين الذين قالوا بتفسير مختلف للسنة، وقالوا هي جمع الاجتهاد بين (القرآن والحديث والرأي والعلم والمصلحة) – أنظر كتاب "الإسلام عقيدة وشريعة" لشيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت، وفي ذلك لم يخرج الشاطبي عن مذهب مالك في وصف الحديث بالسنة، لكن مالكيته سمحت بوصف المنقول عن النبي بالمظنون نظرا لأن السنة الفعلية والقطعية عن الرسول في مذهب مالك هي ما تواتر واتفق عليه أهل المدينة لا الذي نقله عنه أهل الأمصار مما يجعله عرضة للشك والاحتمال..
الأمر الثاني: أن قطعية السنة في الجملة تعني حجيتها كدليل، فما من أحد من المسلمين إلا ويضع السنة مصدرا للتشريع لكنه يختلف على هذه السنة، فهي عند المالكية تواتر وعمل أهل المدنية، وعند الأحناف هي ما تواتر في الأحاديث مع القرآن، وعند الشافعية هي الحديث الصحيح طبقا لقول إمامهم "إذا صح الحديث فهو مذهبي" (راجع مقالنا أكذوبة نسب هذه الكلمة للشافعي والمنشورة في كتابي "تحرير الفكر" صـ 68)، بينما السنة عند الحنابلة هي أوسع فتضمنت كل الأحاديث الصحيحة ومرسل الصحابي وفعل الصحابي، خلافا لما عليه فرق الشيعة المختلفة الذين اجتمعوا على تفسير السنة بأنها طريقة النبي بواسطة آل البيت، والمعتزلة على أن السنة هي القرآن والعقل وما صح من الأحاديث إذا توافقت مع محكم الكتاب وصريح العقل..وإلى هنا تثبت حجية السنة كدليل شرعي لكن الخلاف في تعريفها كان وسيظل مشكلة ومادة شقاق أزلي بين المسلمين..وما عرفه الشاطبي في تلك الفقرة برفض قطعية التفصيل هو ما نعرفه اليوم بنقد الأحاديث والتراث، فنحن ننتقد تفاصيل هذه السنة المزعومة في الحقيقة ولكن لا ننكر إجمالها على العموم..
يقول الشاطبي أيضا "والثاني: أن السنة إما بيان للكتاب، أو زيادة على ذلك، فإن كان بيانا؛ فهو ثان على المبين في الاعتبار، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين، وما شأنه هذا؛ فهو أولى في التقدم، وإن لم يكن بيانا؛ فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب" (الموافقات 4/ 296)
وهنا الشاطبي يقدم عقلانيته على مذهبه النقلي المالكي..ويترك لنفسه العنان للتفكير في مقولة أن "السنة بيان للكتاب" وأن هذه المقولة في الواقع تؤكد أسبقية الكتاب بوصفه مبين وتأخر السنة بوصفها بيان، والمنطق العقلي السليم والحس البدهي القويم يقول أن البيان هو أحوج للمبين لا العكس، وبالتالي فالسنة هي أحوج للقرآن وليس العكس ، علما بأن هذا العكس يثبته كثيرا من فقهاء هذا الزمان بقولهم أن القرآن أحوج للسنة وهذا مخالف للتشريع والعقل معا مثلما بين ذلك الشاطبي بجملة بسيطة من أربعة أسطر، فالقرآن بما أنه مبين لا يلزمه بيان لعدم تعلقه به إلا إذا كان بيانا لمبين آخر وهذا لم يحدث، فما من أحد من المسلمين يقول أن القرآن يشرح ويبين كتاب آخر بل هو أصل وليس فرعا، لكن مقولة بعض شيوخ هذا الزمان في أن القرآن يحتاج للسنة جعلت السنة أصل والقرآن فرع، وهذا يعد تحريفا للدين الإسلامي ويفتح الباب لتقديم فتاوى وكلام الأئمة على كتاب الله مما يقع المسلم فيه بالمحظور لدرجة أنه صار عرضة للخروج من الملة..
وفي الفقرة القادمة كان الشاطبي أمينا في نقل أقوال خصومه والرد عليها بموضوعية:
قال على لسان خصومه: " هذا مخالف لما عليه المحققون – يقصدون الفقرتين السابقتين - أما أولا: فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة؛ لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما؛ فيرجع إلى السنة، ويترك مقتضى الكتاب، وأيضا؛ فقد يكون ظاهر الكتاب أمرا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره، وهذا دليل على تقديم السنة، وحسبك أنها تقيد مطلقه، وتخص عمومه، وتحمله على غير ظاهره، حسبما هو مذكور في الأصول؛ فالقرآن آت بقطع كل سارق؛ فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز، وأتى بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرا؛ فخصته بأموال مخصوصة، وقال تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} [النساء: 24] ؛ فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها؛ فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم السنة عليه، ومثل ذلك لا يحصى كثرة.
وأما ثانيا؛ فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا فاختلف أهل الأصول: هل يقدم الكتاب على السنة، أم بالعكس، أم هما متعارضان وقد تكلم الناس في حديث معاذ، ورأوا أنه على خلاف الدليل؛ فإن كل ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة، فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب، وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب، ولذلك وقع الخلاف، وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب، وهو الكتاب، فإذا كان الأمر على هذا؛ فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب، بل المتبع الدليل"..انتهى
يجيب الشاطبي عن ذلك " إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب؛ فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، ودل على ذلك قوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] ، فإذا حصل بيان قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] بأن القطع من الكوع، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله؛ فذلك هو المعنى المراد من الآية، لا أن نقول: إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب، كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه؛ فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله, عليه الصلاة والسلام، وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى، فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له؛ فلا يتوقف مع إجماله واحتماله، وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه.
وأما خلاف الأصوليين في التعارض؛ فقد مر في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول، وإلا فالتوقف، وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي، وتبين معنى هذا الكلام هنالك، فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية، والخبر معارضة أصلين قرآنيين؛ فيرجع إلى ذلك، وخرج عن معارضة كتاب مع سنة، وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين، وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية؛ فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق وأيضا؛ فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز، ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة؛ فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه، والله أعلم" (الموافقات 4/ 313)
ويظهر من هذا الكلام الرائع أن الشاطبي ينفي تواتر كل الأحاديث بقوله " لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة" وبالتالي لا يصح أن تكون هذه الأخبار المشكوك في صدقيتها واتصالها مقدمة على كتاب الله أو يجري التعامل معها على جهة القطع واليقين، ومعنى ذلك أن الاجتهاد في الأحاديث أو ردها هو عمل مشروع يتفق مع السنة الصحيحة وفقا للشاطبي، وقد نقل الزركشي في كتابه البحر المحيط عن ابن حبان ما يؤيد هذا الكلام، حيث أنكر وجود الحديث المتواتر فقال: "وأنكر الحافظ ابن حبان في صدر صحيحه الخبر المتواتر، فقال: وأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد؛ لأنه ليس يوجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين، وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استحال هذا وبطل، ثبت أن الأخبار كلها أخبار آحاد، ومن رد قبوله فقد رد السنة كلها؛ لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد" (البحر المحيط 6/ 118)
وقد سبق القول في مؤلفاتنا السابقة وما اجتمع عليه عقلاء المسلمين - الذين يذمون النقل ويصفوه بالتقليد حتى شكّوا في إيمان المقلد إجمالا - أن الحكم على الأحاديث بالصحة والضعف هو عمل (نسبي) وليس مطلق، فالإنسان لا يتصف بالمطلق بل أعماله نسبية تبعا لقصوره الذاتي وحدود معلوماته وإدراكه، بالتالي صار وصف الحديث بالمطلق وما انتهى إليه المحدث بالقطعي هو عمل غير علمي لا دليل عليه ولا برهان لهم به، قال تعالى " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون" [المؤمنون : 117] فالأساس بالاعتقاد هو البرهان والدليل لا بمجرد الإيمان يحصل اليقين كما قال ذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير، إذ جعل حصول اليقين في القلب لا بمجرد الإيمان ولكن بمجموع الإيمان والبرهان، والسبب معرفة الرازي بأن طرق الإيمان قد تأتي بالتذوق الشخصي أو الميل النسبي والتجارب الحياتية وردود الأفعال مما تختلف من شخص لآخر وبالتالي فهي بذاتها ليست برهانا لكنها بحاجة إلى برهان ودليل يحصل بالتفكير والتدبر العقلي.
وما زلنا مع الشاطبي في رده على من يقدمون الحديث على الكتاب إذ يقول " السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله ، وبيان مشكله ، وبسط مختصره وذلك لأنها بيان له ، وهو الذي دل عليه قوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم (16 : 44) فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية ، وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك ، ولأن الله قال : وإنك لعلى خلق عظيم (68 : 4) وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن ، واقتصرت في خلقه على ذلك ، فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن ، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء ، ولأن الله جعل القرآن تبيانا لكل شيء ، فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب . ومثله قوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء (6 : 38) وقوله : اليوم أكملت لكم دينكم (5 : 3) وهو يريد : بإنزال القرآن ، فالسنة إذا في محصول الأمر بيان لما فيه ، وذلك معنى كونها راجعة إليه ، وأيضا فالاستقراء التام دل على ذلك ، حسبما يذكر بعد بحول الله ، وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب ، وإلا وجب التوقف عن قبولها ، وهو أصل كاف في هذا المقام " (الموافقات 4/ 320)
وأرجو تأمل السطر الأخير للشاطبي فيقول " أن السنة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقف عن قبولها" ويعني ذلك أن كل حديث يخالف كتاب الله هو ليس سنة بل وجب التوقف فيه ووجوب رده، وبالتالي فمضمون كلامه أن الحديث المتفق مع صريح القرآن هو السنة المقصودة إجمالا في أصل التشريع، فالخلاف وقع بين المحدثين أنفسهم في حصول الصحيح من الضعيف وفي أحوال الرجال، فتجد حديثا هو صحيح عند راوي لكنه ليس كذلك عند آخر، بينما تجد راويا هو ثقة ثبت عدل ضابط عند واحد بينما مدلس أو كذاب ومتروك عند آخر، وهكذا لا يوجد ضابط يحكم علماء الحديث أنفسهم مما جعل قواعدهم مهتزة لا واقع لها ولا ضابط ، فصار كل من يبغي شيئا يستدل بحديث هو صحيح عنده حتى لو جار به على حق أو استحل به مالا ودما حراما أو استحل به كذبا وكبيرة من الكبائر، أو ظلم به ضعيفا وقهر به مظلوما، حتى صار أحاديث النبي في زماننا هذا حجة لمن يقتل ويسرق وينهب ويظلم باسم الله، بينما هي ليست كذلك فسُنّة النبي وطريقته أشرف من ارتكاب المحرمات أو البغي والعدوان على الأبرياء..
وللتعرف على منهج الشاطبي الذي دفعه لكتابة هذا الكلام التنويري العظيم يقول الإمام "محمد رشيد رضا" المتوفي عام 1935 في كتابه تفسير المنار " أن المسلك الذي سلكه (الشاطبي) في إرجاع بعض الأحكام الثابتة في السنة إلى القرآن فهو أنه ذكر الأصول الكلية التي تدور عليها أحكام القرآن في جلب المصالح ودفع المفاسد من الضروريات والحاجات والتحسينات ، وبين أن كل ما في السنة راجع إليها ، وضرب الأمثلة في الضرورات الخمس الكلية ، وهي : حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض ، وقال : " ويلحق بها مكملاتها والحاجات ، ويضاف إليها مكملاتها ، ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد - أي من كتابه هذا - وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها ، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها ، فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام " (تفسير المنار 6/ 136)
فنكون قد وصلنا للباعث الذي حمل الشاطبي على مخالفة كلام البعض بتأخير القرآن وإهماله، وهو أنه كان الشارح الأكبر والأشهر لما اصطلح عليه لاحقا ب (فقه المصالح) وضرورات الدين الخمسة " حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض" وأن تقرير هذه الضرورات الخمسة (هو ثورة فقهية) كبيرة اجتاحت المسلمين في عصر الشاطبي، مما أعاد الاعتبار لأصول الفقه بعد خسفها وإهمالها على يد المحدثين والمقلدين أمثال ابن تيمية وابن الصلاح وغيرهم، فابن تيمية لم يخرج عن ما وصل إليه الحنابلة الأوائل في الأصول وكان يعيد تكرار ما قالوه بأن السنة هي الحديث الصحيح – كالبربهاري وابن خزيمة - وأنها قاضية على الكتاب ومهيمنة عليه، ومن ذلك وصل إلى أحكام غاية في الجرأة على الدماء والأعراض مما أوقعه في استحلال دماء المسلمين وغيرهم من الأبرياء ، وذلك عن طريق تشريعه حد القتل على أكثر من 70 حالة دون القصاص الشرعي وإطلاق أحكام الكفر مئات الحالات ومعاملة أصحابها على أنهم كفار يجوز في حقهم القتال أو دفع الجزية رغم أنهم مسلمين..!!
ولمن يدعي أن مضمون هذه السنة عند ابن تيمية والمحدثين لا يحصل بها إجراما أو قتلا لبرئ أو تسامحا مع قاتليه، فقد اصطلح معظم فقهاء المسلمين على صحة قاعدة "لا يقتل مسلم بكافر" وهو حديث صحيح رواه البخاري عن الإمام علي بن أبي طالب، ومضمونه أنه إذا قتل مسلم مسيحيا – مثلا -لا يُقتصّ منه بل يعاقب دون الموت لأن دم المسلم أعلى شأنا فجاز أن يَقتل المسلم غيره وهو آمن من القَصاص..
هذا الحديث "لا يقتل مسلم بكافر" كان سببا في تشريع العمليات الإرهابية لقتل المسيحيين واليهود بمصر، وسببا آخر للفتن الطائفية بعدة بلدان كان يفتي فيها الشيوخ أن قتل الكفار ليس جزاؤه الموت، وفتوى الشيوخ أن الحديث وحي من الله وضع هذا الحُكم بمرتبة الوحي بل يفوقه أحيانا من حيث الأولوية، مع أن سياق الحديث عن مساواة دم المؤمنين ببعضهم (عربا وعجما) فقبله الشيوخ من هذا الباب بدعوى أنه يدعو للمساواة وعدم التفريق، ولكن صمتوا عن تمييز دم المؤمنين عن غيرهم وتشريعه ظلم وقتل غير المسلمين دون رادع، بل زادوا أن هذا الحُكم هو وحي إلهي ورثه الصحابة ولم يُدوّن..يعني تحريف للقرآن واضح..لذا عندما نقول "نقد الموروث" فلهذا السبب أن يجري فهم الكتب المقدسة بعيدا عن شروح وإضافات البشر، وأن سياق آياتها لو جرى فهمه بعيدا عن تدخلات وأعراف الناس (قديما) سنرى مقصود النص بوضوح ، وأن آيات الحرب كانت محدودة بزمان ومكان لم يعد موجودا..فعبادة الله أشرف من هذا الظلم المنسوب إليه..
وردا على هذا التشريع الظالم " لا يقتل مسلم بكافر" نقل الإمام "محمد أبو زهرة في تفسيره " قال أبو حنيفة والثورى : يقتل المسلم بالكافر إذا قتله عمدا بمحدد وذلك لأننا أخذنا عليهم العهد بأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، ولأننا أعطيناهم العهد بحقن دمائهم ولو لم يقتص لهم لكان فى ذلك إخلال بالعهد ، ولأنهم وقد عقدوا الذمة معنا صار دمهم حراما كدمنا ، ولأننا إذا وجد من يسرق الذمى قطعنا يده ، ومؤدى ذلك أن ماله غير مباح فبالأولى دمه" (زهرة التفاسير 534)
وبعيدا عن مصطلحات أبي زهرة في وصف الذمي وعقد الذمة مما يليق بمذهبه الخاص، فكلامه يذهب لنقض ما وصل إليه جمهور السنة بعدم تكافؤ دم المسلم وغير المسلم، حتى أنه إلى وقت قريب كان يُعمل به في التشريع وحادثة قتل رئيس الحكومة المصري "بطرس غالي" سنة 1910 تشهد على هذا العوار التشريعي، إذا كان القصاص من القاتل المسلم لا يجوز شرعا لقتله مسيحي، مما دفع الشارع المصري في وقت لاحق لتعديل هذه المادة والاعتراف لأول مرة في القانون المصري بتكافؤ دم المسلم وغيره، وهذا ما كان يقصده الشاطبي ومنع القطع بخبر الواحد واعتباره فوق القرآن إذ أن هذه المشكلات القانونية والاجتماعية هي عارض لهذا الفقه الذي كان يحاكمه في الموافقات، ومن أجل ذلك وصل لفقه المصالح الذي يمثل في جوهره ثورة تشريعية وفقهية على الحديث والفقه القديم القائم عليه، وأعاد الاعتبار مرة أخرى للقرآن بعد قرون من إهماله..
ولأن الفارق كبير بين دليل السنة ودليل القرآن وفقا للمحدثين أطرح على حضراتكم هذا العرض في تفصيل "لا يقتل مسلم بكافر" لنرى كيف أن الحديث هو نكبة تشريعة حطت على المسلمين ونحت القرآن جانبا وأهملته قواعده الأساسية بشكل فج:
يقول الشيخ الزحيلي في تفسيره المنير " اختلف الفقهاء في مسألتين هما: قتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي. فاشترط الجمهور التكافؤ بين القاتل والمقتول في الإسلام والحرية، فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد، ولم يشترط الحنفية التكافؤ في الحرية والدين، وإنما يكفي التكافؤ أو التساوي في الإنسانية، فيقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، استدل الجمهور بقول النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم- فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي- عن عبد اللّه بن عمرو: «لا يقتل مسلم بكافر» ورواه البخاري عن علي أيضا، وبقوله عليه الصلاة والسّلام في العبد- فيما رواه الدارقطني والبيهقي- عن ابن عباس مرفوعا: «لا يقتل حر بعبد»
واستدل الحنفية بعموم آيات القصاص دون تفرقة بين نفس ونفس، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة 2/ 178] وقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة 5/ 45] أما آية الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى بعد قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى : فالمراد بها عند الحنفية الرد على ما كان يفعله بعض القبائل، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حرا، وفي امرأتهم إلا رجلا، فأبطل ما كان من الظلم، وأكد فرض القصاص على القاتل دون غيره، فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد، أو أنه لا يقتل الرجل بالمرأة، لأن اللّه أوجب قتل القاتل بصدر الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وهذا يعم كل قاتل، سواء أكان حرا قتل عبدا أم غيره، وسواء أكان مسلما قتل ذميا أم غيره. ثم جاءت آية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ .. لبيان ما تقدم ذكره على وجه التأكيد" (التفسير المنير للزحيلي 2/ 110)
ومن كلام الزحيلي إثبات أن القائلين بالعفو عن القاتل المسلم دليلهم فيه (الحديث) بينما القائلين بالقصاص من هذا القاتل دليلهم فيه (القرآن) ولا زال هذا الإشكال الفقهي قائما دون حل ما دام تفسير السنة يجري حمله على الأحاديث دون بيان آحادها من تواترها وحجيتها أمام القرآن بالمجمل، لكن التشريع المعاصر يبدو أنه يميل للاتجاه القرآني أكثر ويهمل الحديث حتى صار من الماضي وأمثال ذلك هذه القضية وهي تكافؤ دماء الناس من حيث الدين، وغيرها من قضايا كالولاية العامة والخلافة وتطبيق الحدود وغيرها من الأمور الذي يكون تقديم النص القرآني مع العقل والمصلحة العامة هو المهيمن على تشريعات هذا الزمان المدنية في العالم الإسلامي، لكن مذاهب الشيوخ تبقى على الضد والاختلاف مع هذا التشريع آملين في إقناع الناس بثورات دينية على هذا التحضر والعدل والمدنية لعالم آخر يأكل فيه القوي الضعيف والأغلبية تستعبد الأقلية..
الآن بعد هذا العرض حقا لنا أن نحاكم الشاطبي وأبي حنيفة بتهمة ازدراء الأديان، فهما الذين قدما القرآن وفقه المصالح العامة على الحديث، وهو نفس الاتجاه الذي يسلكه التنويريون المسلمون في العالم العربي، ونظرة لكل قاضي ينظر في هذه التهم الفضفاضة والمطاطة – ازدراء الأديان – أن ما يحكم فيه هو رأي واجتهاد في الواقع ليس دينا محكما مقطوع به، والإسلام وكل الأديان شرّعت الاجتهاد للصالح العام ، فلا مثقف يخرج بالنقد والتحليل ولا شيخا يجتهد إلا لمصلحة يجري تحريها، فإذا ثبتت هذه المصلحة أمام القاضي كانت تهمة الازراء "لم تكن" فالإمام الشاطبي وضع ضروراته الخمسة للدين كقصد أساسي من مقاصد التشريع لم يذكرها النص المقدس، لكنها عُرفت بالعقل والاجتهاد والقياس، وأن كل حكم يتضمنه شذوذا في الاستدلال وظنا في الاتهام ونسبية في المواقف هو ليس حكما عادلا..
بل كما قيل "أنه لو إنسانا قال كلمة تحتمل الكُفر من 99 وجهًا، وتحتمل الإيمان من وجه واحد حملناه على الإيمان وليس الكفر " وبرغم شيوع هذه القاعدة بين الفقهاء لكن لا يعمل بها في قضايا الازدراء بل يُسرع القاضي أحيانا بالإدانة دون اعتبار الشك والظنون والشذوذ التي تعتري الأدلة، ولا صورة وسمعة المتهم بين أقاربه ومجتمعه..فحتى مع ظهور البراءة في درجات التقاضي المختلفة لكن مجرد إحالة المفكر (شيخا أو مثقفا) لمحكمة الازدراء يعني اتهاما معنويا في ذاته وشبهة تلاحقه طوال عمره، وتلك هي مثالب ومساوئ محاكم التفتيش، أنها تصادر أول ما تصادر عقل الإنسان..وتنزع أول ما تنزع حريته في الاختيار والحُكم، وتشرعن العنف المجتمعي بمحاكمة الضمائر والطعن في النوايا والتخوين لمجرد الخلاف، بينما العالم المتقدم فطن لهذه المثالب منذ قرون فأقرّ الحرية قانونا وجعلها تشريعا فوق دستوريا وأن ما يطعن في نزاهة وسلوك وعقل المواطن هو (الفعل) لا الكلام النظري خصوصا لو قيل في معرض الاجتهاد والبحث لا في معرض الإساءة ..
مقال للباحث Sameh Askar