مسودة بحث مفهوم الشرك في القرآن الكريم

المحاور التي يتناولها البحث

يتناول هذا البحث المحاور التالية:

• دلالة مفردة "شِرْك" في القرآن الكريم
• دلالة الأفعال: شَرِكَ – شَارَكَ – أَشْرَكَ
• مفهوم الشرك اللازم (العقائدي) وتعدد الآلهة في القرآن الكريم
• مفهوم الكفر بالله في القرآن الكريم
• دلالة "الشرك في" و"الشرك بـ"
• قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه المشركين
• سورة التوبة وآيات قتال المشركين والكفار
• مفهوم الشرك الدنيوي في القرآن الكريم
• مفهوم الشرك اللازم والشرك المتعدي في القرآن الكريم
• الخاتمة

دلالة مفردة "شِرْك" في القرآن الكريم

الشرك هو المصدر الذي تشتق منه الأفعال "شَرِكَ"، "شَارَكَ"، و "أَشْرَكَ". وقد وردت مفردة الشرك في القرآن الكريم في الآيات التالية:

• "وَإِذْ قَالَ لُقْمَـٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَـٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌۭ ۝١٣" 
• "قُلِ ٱدْعُوا۟ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍۢ وَمَا لَهُۥ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍۢ ۝٢٢" 
• "إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا۟ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا۟ مَا ٱسْتَجَابُوا۟ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ ۝١٤" 
• "قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا۟ مِنَ ٱلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌۭ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ أَمْ ءَاتَيْنَـٰهُمْ كِتَـٰبًۭا فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَتٍۢ مِّنْهُ ۚ بَلْ إِن يَعِدُ ٱلظَّـٰلِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ۝٤٠" 
• "قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا۟ مِنَ ٱلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌۭ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ ۖ ٱئْتُونِى بِكِتَـٰبٍۢ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَـٰرَةٍۢ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ۝٤" 

ونلاحظ في الآيات السابقة أن الشرك جاء معرفاً في الآية 13 من سورة لقمان لأن الحديث هو عن الشرك بالله. أما في باقي الآيات السابقة، فقد جاء الشرك بصيغة النكرة ليدل على الحصة أو النصيب.

ومن الجدير ملاحظته، أهمية حرف الجر المرتبط بالشرك، هل هو الحرف "في" أم حرف الباء، إذ يختلف المعنى بشكل كبير حسب حرف الجر المستخدم. "شِرْكٌ في السموات" تدل على حصة أو نصيب في السماوات، أما لو كانت العبارة "شِرْكٌ بالسموات والأرض" فهنا الشرك يتم باستخدام السموات والأرض كوسيلة أو كأداة للاستعانة بها في تحقيق الشرك. وسنأتي على تفسير هذه النقطة بمزيد من التفصيل في هذا البحث.

دلالة الأفعال: شَرِكَ – شَارَكَ - أَشْرَكَ

"شَرِكَ" فعل ثلاثي لازم بمعنى "جَعَلَ نَفْسَه شريكاً" في أمر ما.

شَرِكَ – يَشْرَكُ – فهو شَرِيك (صفة مشبهة باسم الفاعل).

لم يرد الفعل "شَرِكَ" في القرآن الكريم نهائياً.

وقد وردت الصفة المشبهة باسم الفاعل "شَرِيك" في ثلاث آيات:

• "قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ۝١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ ۝١٦٣" 
• "ٱلَّذِى لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًۭا وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٌۭ فِى ٱلْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍۢ فَقَدَّرَهُۥ تَقْدِيرًۭا ۝٢"
• "وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًۭا وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٌۭ فِى ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ وَلِىٌّۭ مِّنَ ٱلذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًۢا ۝١١١" 

 وقد تم في هذه الآيات حسم مسألة عدم وجود شريك لله عز وجل، فليس له شريك (بشكل عام)، وليس له شريك في الملك (على وجه التخصيص).

أما الفعل "شارك" فقد ورد في القرآن الكريم في آية واحدة فقط وتحدثت عن إبليس:

• " وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَـٰدِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلَّا غُرُورًا ۝٦٤" 

الفعل "شارك" هو على وزن "فاعل" واسم الفاعل منه "مُشَارِك" على وزن "مُفَاعِل".

تحتاج الأفعال على وزن "فَاعَلَ" تفاعلاً بين طرفين على الأقل، فمثلاً الفعل "قاتل" لا يمكن أن يتم من طرف واحد، ولابد من وجود طرفين على الأقل ليتم بينهما القتال.

من هنا نفهم أن إبليس لا يعمل أو يتخذ القرار لوحده، بل يتحتم أن تكون القرارات بين إبليس والإنسان، بالمشاركة والقبول والرضا. إبليس لن يجبر الإنسان أن يكون شريكه في الأموال والأولاد ولابد من موافقة الإنسان طوعاً لقبول المشاركة. ولو أن الآية جاءت بصيغة "وأَشْرِكْهُم في الأموال والأولاد" لكان الإنسان مُكرهاً على ذلك وليس من العدل أن يكون محاسباً على أفعاله وأعماله.

أما الفعل "أَشْرَكَ" فهو فعل متعدي مزيد بالهمزة ومشتق من الفعل الثلاثي اللازم "شَرِكَ":

أَشْرَكَ – يُشْرِكُ – فهو مُشْرِك

وقد ورد الفعل "أَشْرَكَ" في 70 موضعاً في 66 آية منفصلة. 

والفعل المتعدي لابد له من مفعول به، لذلك، متى ورد الفعل "أَشْرَكَ" فيجب أن يقع فعل الشرك على المفعول به، وليس على الفاعل. الفاعل هنا هو "المُشْرِك" والمفعول به هو "المُشْرَك".

وبمراجعة آيات القرآن الكريم، نرى أنه لم ترد كلمة "مُشْرَك" أو مشتقاتها نهائياً. بينما كلمة "مُشْرِك" فقد وردت 48 مرة في 42 آية منفصلة وبصيغ مختلفة بين المفرد والجمع، المذكر والمؤنث. 

يختلف الفعل المتعدي "أَشْرَكَ" عن الفعل "شَارَكَ" لكون الأول لابد وأن يكون فيه إكراه للطرف الآخر (المفعول به، المُشْرَك)، حيث لا خيار له، على عكس الفعل "شَارَكَ" الذي يستوجب الموافقة من المفعول به على المشاركة.

إن دلالة الإكراه في الفعل "أَشْرَكَ" هي مفتاح فهم المعنى الحقيقي للمشرك في القرآن الكريم. فالمشرك دائماً يمارس ضغوطاته ونفوذه ليجبر الطرف الآخر على قبول الشرك ويصبح شريكاً مُكرَهاً لا حول له ولا قوة. أما إذا كان هناك قبول من المُشْرَكُ، فمباشرة تنتفي صفة المُشْرِك عن الفاعل ويصبحا شريكين (في حالة المثنى) أو شركاء (في حالة الجمع).

مفهوم الشرك اللازم (العقائدي) وتعدد الآلهة في القرآن الكريم

الشرك اللازم أو الذاتي، العقائدي، هو الاعتقاد بوجود إلهاً آخراً مع الله ودعاء هذا الإله أو عبادته.

من الجدير ذكره، أن هذا الشرك اللازم قد ورد في القرآن الكريم بصيغ مختلفة، ولكن جميع هذه الصيغ لم ترد فيها كلمة "الشرك" كما هو مبين في الآيات التالية:

• "قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـٰدَةًۭ ۖ قُلِ ٱللَّهُ ۖ شَهِيدٌۢ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ۚ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ ۚ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ ۚ قُل لَّآ أَشْهَدُ ۚ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌۭ وَٰحِدٌۭ وَإِنَّنِى بَرِىٓءٌۭ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝١٩" 
• "فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ ۝٩٤ إِنَّا كَفَيْنَـٰكَ ٱلْمُسْتَهْزِءِينَ ۝٩٥ ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ۝٩٦" 
• "لَّا تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًۭا مَّخْذُولًۭا ۝٢٢" 
• "ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰٓ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِى جَهَنَّمَ مَلُومًۭا مَّدْحُورًا ۝٣٩" 
• "وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَـٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ ۝١١٧"
• "وَٱلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًۭا ۝٦٨" 
• "فَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ ۝٢١٣" 
• "أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ فَأَنۢبَتْنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍۢ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنۢبِتُوا۟ شَجَرَهَآ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌۭ يَعْدِلُونَ ۝٦٠ أَمَّن جَعَلَ ٱلْأَرْضَ قَرَارًۭا وَجَعَلَ خِلَـٰلَهَآ أَنْهَـٰرًۭا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ۝٦١ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلًۭا مَّا تَذَكَّرُونَ ۝٦٢ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَـٰحَ بُشْرًۢا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِۦٓ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ تَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝٦٣ أَمَّن يَبْدَؤُا۟ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَـٰهٌۭ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا۟ بُرْهَـٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ ۝٦٤" 
• "وَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ ۘ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُۥ ۚ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۝٨٨" 
• "أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍۢ ۝٢٤ مَّنَّاعٍۢ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍۢ مُّرِيبٍ ۝٢٥ ٱلَّذِى جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ ۝٢٦"
• "وَلَا تَجْعَلُوا۟ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ ۖ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌۭ مُّبِينٌۭ ۝٥١" 
• "وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا۟ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًۭا ۝١٨" 

ونلاحظ أنه في 16 آية منفصلة، لم ترد كلمة "الشرك" في أي منها لتشير إلى اتخاذ أو دعوة أو جعل إله مع الله.

نستنتج مما سبق أن الشرك اللازم أو العقائدي في القرآن الكريم يتحقق من خلال أفعال مثل "يشهد أن مع الله ءالهة" أو " يجعل مع الله إلهاً آخرَ" أو يدعو مع الله إلهاً آخر" أو على شكل سؤال استنكاري " أءِله مع الله؟" ولم يرد مرتبطاً بالفعل "أشرك" نهائياً.

الشرك العقائدي يخص الإنسان بذاته ولا شك أن فيه ظلم كبير للنفس، ينتج عنه انحراف عن الصراط المستقيم وضلال في الحياة الدنيا، لما قد يترتب عنه من أعمال سيئة تودي بصاحبها إلى الجحيم.

ولكن من جهة أخرى، ورد الشرك اللازم (العقائدي)، والمتمثل بعبادة أو جعل آلهة أخرى مع الله، مرتبطاً بأسماء الصفة المشبهة باسم الفاعل "شركاء" من خلال التعبير "جعل لله شركاء" في آيات عديدة في القرآن الكريم . نذكر منها على سبيل المثال:

• "وَجَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا۟ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَـٰتٍۭ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۚ سُبْحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ۝١٠٠"
• "هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًۭا فَمَرَّتْ بِهِۦ ۖ فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَـٰلِحًۭا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ ۝١٨٩ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَـٰلِحًۭا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَا ۚ فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝١٩٠" 
• "قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ ۚ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًۭا وَلَا ضَرًّۭا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلْأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُوا۟ كَخَلْقِهِۦ فَتَشَـٰبَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍۢ وَهُوَ ٱلْوَٰحِدُ ٱلْقَهَّـٰرُ ۝١٦" 
• "أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍۭ بِمَا كَسَبَتْ ۗ وَجَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ ۚ أَمْ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِى ٱلْأَرْضِ أَم بِظَـٰهِرٍۢ مِّنَ ٱلْقَوْلِ ۗ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا۟ عَنِ ٱلسَّبِيلِ ۗ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنْ هَادٍۢ ۝٣٣" 

ووردت عبارة "ألحق بالله شركاء" في آية واحدة في القرآن الكريم:

• " قُلْ أَرُونِىَ ٱلَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِۦ شُرَكَآءَ ۖ كَلَّا ۚ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ۝٢٧"

مفهوم الكفر بالله في القرآن الكريم

لقد ورد مفهوم الكفر بالله بمعنى إنكار الذات الإلهية في القرآن الكريم بآيات صريحة من خلال الفعل "كَفَرَ بالله"، ومن خلال التعبير "يعبد أو يتخذ أو يدعو من دون الله". ونلاحظ أن عبارة "من دون الله" تفيد غياب الله عز وجل من حياة الكافر أو الناكر للذات الإلهية.

ولتوضيح الفكرة أكثر، نضرب المثال التالي: إذا قلت لك "اذهب من دوني"، فأنت ستفهم أني لن أذهب معك، وستذهب لوحدك. ومن هنا نفهم "تعبد من دون الله" أي تعبد أشياء أخرى غير الله. وهذا يختلف عن "تعبد مع الله"، فالله موجود في عبادتك في العبارة الأخيرة، أي أنت تشرك مع الله في عبادتك أموراً أو أشياء أخرى. أما "تعبد من دون الله" فهو الإلحاد كما نعرفه. فأنت تنكر وجود الله، أو على الأقل ليس لله اعتبار في عبادتك نهائياً.

لقد وردت عبارة "من دون الله" في 71 آية في القرآن الكريم نذكر منها على سبيل المثال:

• "قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّۭا وَلَا نَفْعًۭا ۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ۝٧٦"
• "قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۚ قُل لَّآ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ ۙ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًۭا وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ۝٥٦"
• "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـَٔايَـٰتِهِۦٓ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوٓا۟ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالُوا۟ ضَلُّوا۟ عَنَّا وَشَهِدُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا۟ كَـٰفِرِينَ ۝٣٧"
• "وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ۝٢٤"

ولعل الآية الأخيرة تخبرنا بوضوح أن ملكة سبأ وقومها كان سجودهم للشمس فقط، من دون الله. أي أنه لا وجود لله عز وجل في عباداتهم، فهم لم يكونوا مشركين، وإنما كافرين ومنكرين للذات الإلهية. ومما يثبت ذلك الآية "وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍۢ كَـٰفِرِينَ ۝٤٣"

ومن الجدير ذكره أن مصطلح الإلحاد المتعارف عليه، بمعنى "إنكار الذات الإلهية" لم يرد بهذا المعنى في القرآن الكريم. حيث ورد الفعل "ألحد" بمعنى الانحراف والعدول عن الحق.

حسب معاجم اللغة: "ألحد السهم عن الهدف: عدل عنه، وألحد فلان: عدل عن الحق وأدخل فيه ما ليس منه، وألحد إليه: مال إليه، وألحد في الدين: طعن في الدين: أما الملتحد، فهو الملجأ والملاذ"

وقد ورد الفعل "ألحد" والمصدر "ملتحد" في الآيات التالية من القرآن الكريم:

• "وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا۟ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ أَسْمَـٰٓئِهِۦ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ۝١٨٠"
• "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌۭ ۗ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّۭ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّۭ مُّبِينٌ ۝١٠٣"
• "إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ ءَايَـٰتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِى ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىٓ ءَامِنًۭا يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۚ ٱعْمَلُوا۟ مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۝٤٠"
• "وَٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلْتَحَدًۭا ۝٢٧"
• "قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌۭ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلْتَحَدًا ۝٢٢"

وكما نرى في الآيات السابقة، فإن الإلحاد جاء بمعنى العدول عن الحق أو الطعن فيه. أما الملتحد فجاء بمعنى الملتجأ أو الملاذ.

وبالتالي، فإن إنكار الذات الإلهية في القرآن الكريم قد ورد بصيغة "من دون الله" سواء في العبادة أو الدعوة أو الإشراك.

دلالة "الشرك في" و"الشرك بـ"

لقد ورد الفعل "أَشْرَكَ في" في آيتين فقط في القرآن الكريم:

• "قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا۟ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًۭا ۝٢٦" 
• "هَـٰرُونَ أَخِى ۝٣٠ ٱشْدُدْ بِهِۦٓ أَزْرِى ۝٣١ وَأَشْرِكْهُ فِىٓ أَمْرِى ۝٣٢" 

أما الفعل الثلاثي المزيد بحرف "أَشْرَكَ بـ" فقد ورد في 31 موضعاً في 28 آية منفصلة. عندما يرد الفعل "أشرك بـ" فالباء هنا هي باء الوسيلة أو باء الاستعانة، أو باء السببية أحياناً.

الشرك في أمر ما، هو الحصول على نصيب أو حصة في ذلك الأمر. ففي سورة الكهف، بيَّن الله عز وجل أنه لا يتخذ في حكمه أي شريك، فله الحكم الخالص "إن الحكم إلا لله".

أما في سورة طه، فقد طلب موسى عليه السلام من رب العالمين، أن يشرك أخيه هارون في أمره، أي في أمر موسى، والمتعلق بدعوة فرعون ليرسل معه بني إسرائيل.

"أشركه بأمري": تعني أن موسى هو من يأمر بإشراك هارون.

• بينما "أشركه في أمري" فالمشرك هو الله عز وجل عندما أشرك هارون في أمر موسى (أي في قضيته مع فرعون".

وللتوضيح أكثر، لننظر إلى هذين المثالين:

صدر قرار في أمر الملك

"صدر قرار بأمر الملك".

في المثال الأول، يفهم أن هناك قرار اتخذ في مصير الملك، كأن تجدد له البيعة، أو يعزل أو خلافه، وهذا القرار قد صدر عن جهة ما، كمجلس شورى أو مجلس مندوبي الشعب.

أما في المثال الثاني فإن القرار صدر بأمر من الملك أو حسب توجيهاته، والقرار لا يخص ذات الملك.

ونظراً لأهمية معنى حرفي الجر "الباء" وحرف الجر " في" نضرب مثالاً آخراً:

"أفرحتك بزيارتي"

• "أفرحتك في زيارتي".

في المثال الأول، أنت من فرح (صار عند فرح) والسبب هو زيارتي. فزيارتي هي التي كانت السبب في فرحك، والباء هنا يمكن أن نسميها باء السببية.

أما في المثال الثاني فالحديث يدور عن أحداث حصلت خلال زيارتي لك، وأدت إلى فرحك. وفي الحالتين حصل الفرح عندك، فأنت من فرح.

لنضرب مثالاً من القرآن الكريم: " وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوْمِهِۦ غَضْبَـٰنَ أَسِفًۭا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِنۢ بَعْدِىٓ ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى ٱلْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُۥٓ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا۟ يَقْتُلُونَنِى فَلَا تُشْمِتْ بِىَ ٱلْأَعْدَآءَ وَلَا تَجْعَلْنِى مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ۝١٥٠"

يطلب هارون من أخيه موسى ألا يجعل منه سبباً أو وسيلة يَشْمَتُ من خلالها الأعداء. فالشخص المسبب للشماتة هو موسى، والذي سيشمت هم الأعداء، ودور هارون في هذه العملية سيكون سبباً أو وسيلة للشماتة.

ماذا لو كانت الآية (وللتوضيح فقط) جاءت "لا تشرك بي الأعداء"؟

فبالمماثلة مع آية الشماتة، نجد هنا أن الشرك سيحصل عند الأعداء، والمسبب للشرك هو المخاطب في هذه العبارة. أما الجار والمجرور "بي" فيمثل السبب أو الوسيلة للشرك.

من هنا، نأتي لتدبر الآية الكريمة: "قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌۭ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌۭ وَٰحِدٌۭ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُوا۟ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًۭا صَـٰلِحًۭا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا ۝١١٠" ونحاول تفصيل عبارة " وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا".

ففي هذه العبارة، يقع تأثير الفعل المضارع "يُشْرِك" على المفعول به وهو "أحداً"، والفاعل ضمير مستتر تقديره "هو"، ودور العبادة هنا هو "السبب" الذي حصل فيه الشرك عند المفعول به.

هناك مفهوم خاطئ عند عامة المسلمين أن الشرك حصل عند الفاعل. بينما سياق الآية، وبمماثلتها مع الأمثلة السابقة، نرى بوضوح أن الإشراك يقع على المفعول به، فهو من سيحصل عنده شرك.

للتبسيط سنستبدل الضمائر بأسماء علم، ونقول " أشرك زيدٌ بعبادة ربه عمراً". فالذي أشرك هو زيد، والذي وقع عليه الفعل وصار عنده شرك (أصبح شريكاً) هو عمر. أما العبادة فدورها كان مجرد وسيلة أو سبب في هذه العملية. وهذه الجملة لا تعني أبداً أن زيداً سيعبد عمراً كما هو السائد في التفسيرات المتوفرة لمعنى الشرك. التفسير الخاطئ لهذه الجملة هو أن زيداً صار يعبد عمراً كشريك مع الله"، وهذا لا يستقيم أبداً مع سياق النص. يتم الحديث هنا عن جعل عمراً شريكاً لزيد في عبادته لربه (عبادة زيد لربه). كأن يقوم زيد بإكراه عمراً على أداء الصلاة معه.

قد يقول قائل أن ما ذهبنا إليه يتحقق لو كانت الجملة على النحو التالي:" أشرك زيدٌ في عبادة ربه عمراً". ولكن كما بينا في الأمثلة السابقة، فإن عمراً سيصبح شريكاً لزيد في مجريات العبادة، وليس بسببها. أي أثناء العبادة، فإن كانت صلاة مثلاً، فإن عمر يسجد ويركع مع زيد كونه صار شريكاً له في هذه الصلاة. فالحديث عن أحداث الصلاة وحركاتها، وليس عن الصلاة كونها سبب الإشراك.

ومن هنا نلاحظ أهمية حرف الجر في سياق الكلام وكيف يتغير المعنى كلياً إذا استبدلنا حرف جر بآخر.

هذا ويعتبر الشرك بالله من أولى المحرمات التي ذكرتها الآية " قُلْ تَعَالَوْا۟ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا۟ بِهِۦ شَيْـًۭٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًۭا ۖ وَلَا تَقْتُلُوٓا۟ أَوْلَـٰدَكُم مِّنْ إِمْلَـٰقٍۢ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا۟ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا۟ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝١٥١"  والتحريم جاء ليشمل الشرك بالله أي شيء ومهما يكن.

لقد ورد الشرك بالله غير مقترن بمفعول به. وهذا الأمر وارد في القرآن الكريم، عندما يحذف المفعول به للإطلاق وعدم التخصيص. فمثلاً الآية "يَـٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُوا۟ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَكُلُوا۟ وَٱشْرَبُوا۟ وَلَا تُسْرِفُوٓا۟ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ ۝٣١"  لم تحدد ماذا نأكل وماذا نشرب بهدف الإطلاق وعدم تخصيص طعام أو شراب محدد. كذلك جاءت آيات عديدة في القرآن الكريم ولم تخصص أو تحدد ماهية الشرك بالله، بل جعلته مطلقاً، مما يفيد أن أي عملية إشراك باستخدام الله كسبب أو وسيلة هو أمر محرم تماماً، ومهما كان نطاق الشرك فيه.

ومن الآيات التي جاء الشرك بالله فيها مطلقاً وغير مخصص:

• "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰٓ إِثْمًا عَظِيمًا ۝٤٨" 
• "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلًۢا بَعِيدًا ۝١١٦" 
• "وَإِذْ قَالَ لُقْمَـٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَـٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌۭ ۝١٣" 

كما ورد الشرك بالله مرتبطاً باسم الفاعل "مشركون بالله" كما في الآية:

• "حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِۦ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرِّيحُ فِى مَكَانٍۢ سَحِيقٍۢ ۝٣١" 

ومن هنا نفهم أن الشرك بالله، بمعنى أن تستخدم الله كوسيلة أو سبب لتكره الآخرين حتى تجعلهم شركاء لك، هو شرك متعدي لأن فيه ظلم عظيم للآخرين، وبغض النظر عن ماهية هذا الشرك، إن كان عبادة الله أو أية آلهة غيره، أو كان شركاً في أمور دنيوية (تعاملات تجارية أو علاقات اجتماعية أو غيرها). ومن جهة أخرى، فلقد ورد الشرك بالله مقروناً بمفعول به من غير العاقل، إذ لم يرد في القرآن الكريم عبارة "يشرك بالله أحداً" وإنما وردت عبارة "يشرك بالله شيئاً" أو مرتبطاً باسم الموصول "ما" والذي يشير إلى غير العاقل أيضاً. وكمثال على ذلك الآيات التالية:

• "قُلْ يَـٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْا۟ إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍۭ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًۭٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًۭا مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَقُولُوا۟ ٱشْهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ۝٦٤" 
• "وَٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا۟ بِهِۦ شَيْـًۭٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًۭا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلْجَنۢبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًۭا فَخُورًا ۝٣٦" 
• "سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُوا۟ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ سُلْطَـٰنًۭا ۖ وَمَأْوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ ۝١٥١" 
• "وَحَآجَّهُۥ قَوْمُهُۥ ۚ قَالَ أَتُحَـٰٓجُّوٓنِّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ ۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـًۭٔا ۗ وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ۝٨٠" 

ما هي الأشياء التي يمكن للإنسان أن يشركها بالله؟

لا شك أن الجواب على هذا السؤال جاء في الآية 151 من سورة آل عمران، فكل شيء لم يُنَزّل الله به سلطان، فقد حرم الله أن نشرك الآخرين به. فما هو هذا السلطان؟

السلطان مشتق من السلطة والقوة والمقدرة التي أباحها الله عز وجل في رسالاته السماوية. فمثلاً العيش بأمان في المجتمع من أهم الأمور التي طلبها الله عز وجل من عباده، ولذلك أباح للإنسان فرض هذا النظام وإجبار الناس وإكراههم على الالتزام به (جَعْلَهُم شركاء في العيش بأمان في المجتمع). الشرك بالله هنا أمر مطلوب لأنه سلطان من الله عز وجل لعباده. ,أمثلة أخرى كثيرة يحق للمجتمع إكراه الآخرين عليها وجعلهم شركاء فيها، لأنها تقع ضمن السلطان الذي تضمنته الكتب السماوية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، القصاص في القتلى، الشراكة في الإرث، قتال المعتدين، وغيرها.

باختصار، السلطان هو الكتب السماوية التي أرسلها الله لعبادة ونزلها على رسله كالتوراة والإنجيل والقرآن. فهي تشكل دستوراً للعيش المشترك في المجتمعات الإنسانية. فقد جاء في الآية " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَـٰتِنَا وَسُلْطَـٰنٍۢ مُّبِينٍ ۝٩٦" . وجميع التعليمات التي جاء بها الرسل هي سلطان للناس كي يجعلوا من أنفسهم شركاء في المجتمع. لننظر إلى الآية " قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱللَّهِ شَكٌّۭ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى ۚ قَالُوٓا۟ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌۭ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَـٰنٍۢ مُّبِينٍۢ ۝١٠" ، والتي تبين أن أي كتاب سماوي فهو يعتبر سلطاناً مبيناً.

ومن الجدير ذكره، أن المفعول به (الآخرين) ظل محذوفاً في جميع الآيات التي ذكرت الشرك بالله، بمعنى، أن تشرك بالله الآخرين (كمفعول به أول محذوف) ما لم ينزل الله به سلطاناً (كمفعول به ثاني).

أما الشرك بالرب، فقد ورد مرتبطاً بمفعول به عاقل بصيغة "يشرك بربه أحداً" كما في الآيات التالية:

• "لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى وَلَآ أُشْرِكُ بِرَبِّىٓ أَحَدًۭا ۝٣٨"
• "وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَـٰلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّىٓ أَحَدًۭا ۝٤٢"
• "قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌۭ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌۭ وَٰحِدٌۭ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُوا۟ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًۭا صَـٰلِحًۭا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا ۝١١٠"
• "قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌۭ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوٓا۟ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًۭا ۝١ يَهْدِىٓ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًۭا ۝٢"
• "قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُوا۟ رَبِّى وَلَآ أُشْرِكُ بِهِۦٓ أَحَدًۭا ۝٢٠"

و جاء في جميع هذه الآيات النهي عن جعل رب العالمين سببا أو وسيلة لإشراك الآخرين

و بالطبع فان الشرك هنا شرك متعدي كونه يطال الآخرين

فلا يجوز لأحد أن يشرك الآخرين حتى في عبادته لرب العالمين

فقد منح اللخ الحرية التامة (المشيئة التامة) للناس في اختيار معتقداتهم الذاتية (اللازمة)

و التي تبقى ماتزمة لهم

دون أن تتعداهم لتطال الآخرين

أما إذا تعدت المعتقدات الإنسان وطالت أفراد المجتمع، فقد أعطى الله سلطاناً للمجتمع كي يُكْرِه هؤلاء المخالفين وإجبارهم ليكونوا شركاء مع بقية أفراد المجتمع ضمن القوانين والأحكام التي وردت في الرسالات السماوية.

قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه المشركين

إن من أهم القصص القرآني التي تطرقت لمفهوم الشرك هي قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه. لذلك سندرس الآيات ذات الصلة التي تتحدث عن علاقة إبراهيم مع قومه وكيف ورد مفهوم الشرك في هذه القصة.

"وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً ۖ إِنِّىٓ أَرَىٰكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍۢ ۝٧٤ وَكَذَٰلِكَ نُرِىٓ إِبْرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ ۝٧٥ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًۭا ۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّى ۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلْـَٔافِلِينَ ۝٧٦ فَلَمَّا رَءَا ٱلْقَمَرَ بَازِغًۭا قَالَ هَـٰذَا رَبِّى ۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّآلِّينَ ۝٧٧ فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمْسَ بَازِغَةًۭ قَالَ هَـٰذَا رَبِّى هَـٰذَآ أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يَـٰقَوْمِ إِنِّى بَرِىٓءٌۭ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝٧٨ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ حَنِيفًۭا ۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ۝٧٩ وَحَآجَّهُۥ قَوْمُهُۥ ۚ قَالَ أَتُحَـٰٓجُّوٓنِّى فِى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنِ ۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْـًۭٔا ۗ وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ۝٨٠ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ عَلَيْكُمْ سُلْطَـٰنًۭا ۚ فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۝٨١ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَلَمْ يَلْبِسُوٓا۟ إِيمَـٰنَهُم بِظُلْمٍ أُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۝٨٢ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍۢ مَّن نَّشَآءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌۭ ۝٨٣" 

تبين هذه القصة أن قوم إبراهيم كانوا مشركين بالله، وكما قلنا فإن الباء هنا هي باء الوسيلة أو باء الاستعانة. فهم يعتقدون ويصدقون بالله كخالق، ولكنهم يعبدون أصناماً مع الله (جعلوا مع الله آلهة أخرى). وكما أسلفنا، أن تجعل مع الله إلهاً آخر هو "الشرك اللازم أو العقائدي"، أما أن تشرك الآخرين وتجبرهم على أن يتبعوك في عبادة الأصنام، فهو ما سميناه "الشرك المتعدي"، وقلنا أن فيه إكراه وظلم للآخرين.

إن عبارة "أشركتم بالله" التي وردت في الآية 81 أعلاه تؤكد أن قوم إبراهيم كانوا يستعينون بالله ويحاجون إبراهيم في الله ليفرضوا الشرك على الآخرين، وهذا هو الظلم العظيم الذي أشارت له الآية 13 من سورة لقمان: "وَإِذْ قَالَ لُقْمَـٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَـٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌۭ ۝١٣"

وقد ورد في سورة الزخرف ما يؤكد شرك قوم إبراهيم عندما تبرأ إبراهيم مما كانوا يعبدون باستثناء الله عز وجل: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِۦٓ إِنَّنِى بَرَآءٌۭ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ۝٢٦ إِلَّا ٱلَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُۥ سَيَهْدِينِ ۝٢٧" 

أما في سورة مريم، فنلاحظ كيف هدد آزر إبراهيم بالرجم والتهجير إذا لم يعبد الآلهة التي كان يعبدها آزر، وهنا نلمس معنى الإكراه في عملية الشرك.

"وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ إِبْرَٰهِيمَ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّيقًۭا نَّبِيًّا ۝٤١ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَـٰٓأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِى عَنكَ شَيْـًۭٔا ۝٤٢ يَـٰٓأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِىٓ أَهْدِكَ صِرَٰطًۭا سَوِيًّۭا ۝٤٣ يَـٰٓأَبَتِ لَا تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ ۖ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيًّۭا ۝٤٤ يَـٰٓأَبَتِ إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌۭ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيًّۭا ۝٤٥ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَـٰٓإِبْرَٰهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَٱهْجُرْنِى مَلِيًّۭا ۝٤٦ قَالَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّىٓ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ بِى حَفِيًّۭا ۝٤٧ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُوا۟ رَبِّى عَسَىٰٓ أَلَّآ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّۭا ۝٤٨ فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُۥٓ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّۭا جَعَلْنَا نَبِيًّۭا ۝٤٩ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّۭا ۝٥٠" 

ويظهر الإكراه الذي كان يمارسه قوم إبراهيم على الناس في شركهم في الآية 4 من سورة الممتحنة، حيث تذكر الآية العداوة والبغضاء التي سادت بين إبراهيم والذين معه وبين القوم المشركين. والمشركون كانوا يمارسون الإكراه لإجبار الناس على عبادة آلهتهم، لذلك ذكرت الآية أن العداوة والبغضاء لن تزول بينهم حتى يؤمن هؤلاء المشركون. والإيمان هنا جاء بالمفهوم المتعدي، أي حتى يمنحوا الأمان لإبراهيم والذين معه. فالمشرك مرتبط دائماً بعدم الإيمان (عدم منح الأمان) وهو ما يمثل الإكراه الذي نتحدث عنه. لا يوجد مشرك إلا ويطبق الإكراه على الطرف الآخر حتى يجبره على اتباع معتقداته.

"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌۭ فِىٓ إِبْرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذْ قَالُوا۟ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُا۟ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحْدَهُۥٓ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍۢ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ۝٤" 

طالما هناك إكراه يمارسه المشرك على الطرف الآخر، فمن حق الطرف الآخر أن يدافع عن نفسه بشتى الوسائل، ومن هنا نفهم لماذا قام إبراهيم عليه السلام بتحطيم الأصنام التي كان قومه يعبدونها. إذا نظرنا إلى الموضوع من وجهة نظر "لا إكراه في الدين" قد نستغرب تصرف إبراهيم عليه السلام وقد يعتبره البعض تعدي على حرية الآخرين. ولكن عندما نفهم أن المشرك يحارب ويُكْرِه الآخرين على الإشراك (لا يؤمن الناس)، نستطيع أن نفهم مبررات تحطيم الأصنام. ونحن نعتقد، لو أن قوم إبراهيم كانوا يشاركون الناس في عبادة الأصنام (وهنا نلاحظ معنى الفعل شارك، والذي يفيد الرضى من جميع الأطراف المشاركة) لما فعل إبراهيم فعلته، ولتركهم في شركهم على مبدأ "لا تزر وازرة وزر أخرى".

سورة التوبة و قتال المشركين و الكفار

تعتبر سورة التوبة من أكثر سور القرآن الكريم المثيرة للجدل، والتي يستخدمها العلمانيون وأصحاب الملل الأخرى للهجوم على القرآن واتهامه بالتحريض على الإرهاب. بينما يتخبط المفسرون والفقهاء في كيفية معالجة آيات القتال التي وردت فيها. فمنهم من يجعلها خاصة في الزمان والمكان، وأنها تحدثت عن حقبة زمنية محددة وفي مكان محدد، وبالتالي، هم ينسخون هذه السورة بالكامل من حيث لا يشعرون. ويلجأ آخرون إلى تثبيت آيات هذه السورة وتطبيقها في أي زمان ومكان، وهنا يجدون أنفسهم في حالة حرب دائمة مع باقي الأمم. أما بعض التنويريين، فيحاولون الالتفاف على نصوص الآيات واعتبار أن الفعل "قاتل" لا يفيد القتل، وإنما هو مجاهدة بالفكر والمحاججة بالحوار، وفي حالات خاصة فقط، يمكن اللجوء للقتال الفعلي عندما يبدأ الطرف الآخر بالقتال. أي يعتبرون أوامر القتال في سورة التوبة هي للدفاع عن النفس فقط.

نحاول في هذا البحث النظر إلى آيات القتال في سورة التوبة منطلقين من مفهومي "الإيمان المتعدي" و"الشرك المتعدي" ونحاول فهم هذه الآيات ضمن هذا السياق. فالإيمان المذكور في سورة التوبة ما هو إلا عملية منح الأمان للآخرين. فالشخص غير المؤمن هو من لا يمنحك الأمان ويبث الخوف والذعر لديك. والمشرك هو من يريد أن يجعلك شريكاً له بالإكراه والإجبار. وفي كلا الحالتين، يحق للإنسان الدفاع عن نفسه في أي زمان ومكان.

ومن الجدير ذكره، أن سورة التوبة، هي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي لا تبدأ بالبسملة، وهذا بيان من الله عز وجل للناس ألا يتم القتل والقتال باسمه أبداً. لنستعرض بعض الآيات في سورة التوبة والتي تتحدث عن قتال المشركين والكفار:

• "فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلْأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُوا۟ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍۢ ۚ فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّوا۟ سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ ۝٥"

نلاحظ في هذه الآية التدرج في التعامل مع المشركين والذي بدأ بالقتل، ثم الأخذ والحصار، ومن ثم القعود والتربص لهم، ليأتي بعدها دور التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأخيراً إخلاء السبيل.

وهنا يحق لنا أن نتساءل، هل جاء أمر القتل هنا بمعنى إزهاق الأرواح؟ كيف تأخذ وتحصر وتقعد للمشرك بعد أن قتلته (أزهقت روحه)، ومن ثم كيف سيتوب وكيف ستخلي سبيله؟

لابد وأن القتل هنا في عبارة "اقتلوا المشركين" قد فسرتها الأعمال التي ذكرت بعدها من أخذ وحصار والترصد حتى يتوب هؤلاء المشركون وبعدها يتم إخلاء سبيلهم. كل هذه الأفعال مجتمعة، كفيلة بأن تقتل أي عمل يقوم به المشركون ليكرهوا الناس على الشرك. فالقتل هنا لا يمكن أن يكون بمعنى إزهاق الأرواح، وإنما التضييق والحصار والترصد للمشركين حتى يكفوا عن أفعالهم. ويستثنى من ذلك، الحالة التي يقوم بها المشركون بالقتال الفعلي والمحاربة، فهنا لابد من اللجوء للقتال للدفاع عن النفس.

• "وَإِنْ أَحَدٌۭ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُۥ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌۭ لَّا يَعْلَمُونَ ۝٦"

توضح هذه الآية صفة الرحمة التي أمر الله بها في التعامل مع المشركين الذين كفوا أذاهم عن الناس وطلبوا الحماية، وذلك عن طريق منح المشرك الأمان والمعاملة بالحسنى ليسمع كلام الله، فقد وصفهم رب العالمين بأنهم قوم لا يعلمون.

• "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۖ فَمَا ٱسْتَقَـٰمُوا۟ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُوا۟ لَهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ ۝٧

تستثني هذه الآية المشركين الذين عاهدهم الرسول، عليه الصلاة والسلام، عند المسجد الحرام، ويطلب رب العالمين فيها بالحفاظ على العهد المبرم مع المشركين ما دام المشركون محافظين عليه. وختمت الآية بأن الله يحب المتقين. والمتقي عكسه المعتدي كما بينته آيات عديدة في القرآن الكريم، حين وردت التقوى نقيضاً للعدوان.

• "كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا۟ عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا۟ فِيكُمْ إِلًّۭا وَلَا ذِمَّةًۭ ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَٰهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـٰسِقُونَ ۝٨ ٱشْتَرَوْا۟ بِـَٔايَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنًۭا قَلِيلًۭا فَصَدُّوا۟ عَن سَبِيلِهِۦٓ ۚ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ ۝٩ لَا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلًّۭا وَلَا ذِمَّةًۭ ۚ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ ۝١٠ فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِى ٱلدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ ٱلْـَٔايَـٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ ۝١١ وَإِن نَّكَثُوٓا۟ أَيْمَـٰنَهُم مِّنۢ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا۟ فِى دِينِكُمْ فَقَـٰتِلُوٓا۟ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَآ أَيْمَـٰنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ۝١٢ أَلَا تُقَـٰتِلُونَ قَوْمًۭا نَّكَثُوٓا۟ أَيْمَـٰنَهُمْ وَهَمُّوا۟ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝١٣ قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍۢ مُّؤْمِنِينَ ۝١٤"

تبين هذه الآيات بوضوح أعمال المشركين بأنهم قوم فاسقون، ويعملون السيئات، ووصفهم رب العالمين بأنهم قوم معتدون. ونلاحظ أن كل هذه الأفعال هي سلوك اجتماعي، ليس له علاقة بالعقيدة والشرك مع الله (الشرك اللازم). وجاء الأمر بقتال المشركين لأنهم نكثوا أيمانهم وأخرجوا رسول الله من دياره، وكانوا هم البادئين بالقتال. من هنا جاء الأمر بقتالهم دفاعاً عن النفس ولكف الأذى الناجم عنهم.

• "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا۟ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ شَـٰهِدِينَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم بِٱلْكُفْرِ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ وَفِى ٱلنَّارِ هُمْ خَـٰلِدُونَ ۝١٧ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءامن بالله و اليوم الآخر وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا ٱللَّهَ ۖ فَعَسَىٰٓ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَن يَكُونُوا۟ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ۝١٨"

يصف رب العالمين في هذه الآية المشركين بالكفر، وهنا لابد من وجود قرينة تبين ماهية الكفر باعتبار أن الكفر دائماً بحاجة إلى قرينة. فجاءت القرينة في الآية التالية وهي الإيمان بالله واليوم الآخر. وقد أوضحنا في بحث سابق أن الإيمان هنا هو إيمان متعدي بمعنى منح الأمان للآخرين. وحرف الباء في عبارة " ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ" يدل على باء الاستعانة بالله وباليوم الآخر، وقد يجوز اعتبار الباء في هذه الآية هي باء السببية (بسبب وجود اليوم الآخر).

• "يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌۭ فَلَا يَقْرَبُوا۟ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةًۭ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦٓ إِن شَآءَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌۭ ۝٢٨ قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْـَٔاخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُوا۟ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍۢ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ ۝٢٩"

الخطاب موجه في هذه الآية للذين آمنوا، أي الذين يمنحون الأمان لغيرهم، وتخبرهم بأن المشركين نجس بسبب الأعمال التي يقومون بها، وهي عكس الإيمان. وهنا لابد من ربط أفعال المشركين بالآية التي تليها، والتي تأمر بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر (إيمان متعدي اجتماعي) ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله (وهنا نشير إلى الآية 36 من سورة التوبة التي تشير إلى الأشهر الحرم)، ومن لا يلتزمون بدين الحق من أهل الكتاب. وجاء الأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ونحن نعتقد أن الجزية في هذه الآية تدل على الجزاء أو الغرامات المترتبة عن الأفعال التي قام بها المشركون ونجم عنها خسائر طالت الآخرين. يجب عليهم أن يعطوا المتضررين تعويضات عن خسائرهم. ولا نعتقد بصحة المفهوم السائد للجزية بأنها مبلغ من المال يُفْرَضُ على الأقليات غير المسلمة لقاء تأمينهم وحمايتهم، فهذا يدخل تحت الإكراه الذي نهى الله عنه.

• "إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًۭا فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌۭ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا۟ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَـٰتِلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةًۭ كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَآفَّةًۭ ۚ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ۝٣٦"

توضح هذه الآية أيضاً أن الأمر بقتال المشركين جاء للدفاع عن النفس، رداً لقتالهم لنا، وليس عدواناً عليهم، حيث ختمت الآية بأن الله مع المتقين. والمتقون هنا هم عكس المعتدون. فالتقوى جاءت نقيضاً للعدوان في آيات عديدة من القرآن الكريم.

نستنتج مما سبق أن سورة التوبة تعالج وضع المشركين بسبب شركهم المتعدي الذي يطال المجتمع، وليس بسبب شركهم العقائدي. فالشرك العقائدي يندرج تحت مفهوم لا إكراه في الدين، ومبدأ لا تزر وازرة وزر أخرى.

الشرك المتعدي دائماً جاء مقروناً بالفسوق والعدوان والإكراه، ومن هنا وجب القتال دفاعاً عن النفس.

مفهوم الشرك الدنيوي في القرآن الكريم

لقد ورد الشرك في القرآن الكريم ليشير إلى شرك في أمور دنيوية، ليس لها علاقة بالعقيدة والعبادات. فهناك شرك في الميراث مثلاً، كما جاء في الآية الكريمة:

• " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌۭ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌۭ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍۢ ۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌۭ ۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌۭ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍۢ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌۭ يُورَثُ كَلَـٰلَةً أَوِ ٱمْرَأَةٌۭ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوْ أُخْتٌۭ فَلِكُلِّ وَٰحِدٍۢ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوٓا۟ أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى ٱلثُّلُثِ ۚ مِنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّۢ ۚ وَصِيَّةًۭ مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌۭ ۝١٢" 

ووردت الشراكة في الأنعام في الآية:

• "وَقَالُوا۟ مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلْأَنْعَـٰمِ خَالِصَةٌۭ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزْوَٰجِنَا ۖ وَإِن يَكُن مَّيْتَةًۭ فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ ۚ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٌۭ ۝١٣٩"

وورد الشرك في أمور الزنا والنكاح باعتباره شرك في أمور دنيوية كعلاقات جنسية أو عقود نكاح:

• "وَلَا تَنكِحُوا۟ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌۭ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌۭ مِّن مُّشْرِكَةٍۢ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا۟ ۚ وَلَعَبْدٌۭ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌۭ مِّن مُّشْرِكٍۢ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُو۟لَـٰٓئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ ۖ وَٱللَّهُ يَدْعُوٓا۟ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِۦ ۖ وَيُبَيِّنُ ءَايَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ۝٢٢١" 
• "ٱلزَّانِى لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةًۭ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌۭ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ۝٣"

وفي جميع هذه الآيات ليس للشرك علاقة بالعقيدة وإنما يرتبط بأمور العلاقات بين الناس في الحياة الدنيا.

مفهوم الشرك اللازم والشرك المتعدي في القرآن الكريم

وجدنا في هذا البحث أن للشرك نوعان رئيسيان:

• شرك لازم (عقائدي): ينحصر فيه أثر الشرك على الفاعل نفسه، ولا يتعداه بأية طريقة إلى المجتمع. ولا شك أن هذا الشرك فيه ظلم عظيم للنفس، قد يتسبب في ضلال الإنسان عن طريق الحق. ويتمثل هذا النوع من الشرك في عبادة إلهاً آخر مع الله (تعدد الآلهة وعدم التوحيد في العبادة). والشرك اللازم قد يودي بصاحبه إلى التهلكة، فعبادة أي شيء مع الله أو من دونه، لابد وأن يكون له آثاراً سلبية على الإنسان وحياته الدنيوية. أما إذا نتج عن هذا الشرك أعمال ضارة للآخرين، فمباشرة يتحول هذا الشرك من شرك لازم إلى شرك متعدي. وينطبق هذا على الشرك الدنيوي أيضاً والمتمثل بالعلاقات التجارية والاجتماعية، فإن نتج عن الشرك اللازم أية أضرار تطال الآخرين، فينتقل هذا الشرك من شرك لازم إلى شرك متعدي.
• شرك متعدي (اجتماعي): لابد أن يطال هذا الشرك المجتمع وأفراده، وفي هذا الشرك ظلم عظيم لا يغتفر، لأن فيه إكراه ويتعارض مع المبدأ الرئيسي في الإسلام وهو "لا إكراه في الدين". ويتمثل هذا الشرك في تطبيق ضغوط مادية أو معنوية على الآخرين بهدف جعلهم شركاء بوجه عام (قد يكون الشرك دنيوياً: أعمال تجارية، علاقات أسرية، وخلافه) أو أن يكون شركاً بالعقيدة (أن تكره الناس حتى يتبعوا عقيدتك وعباداتك)، وهذا هو الأخطر في موضوع الشرك، والذي ورد بصيغة "الشرك بالله".

• "الشرك بالله" هو شرك متعدي (سلوكي واجتماعي) يُستخدم فيه الله عز وجل كوسيلة للإكراه، وكسبب لإجبار الآخرين في أن يصبحوا شركاء في العقيدة. من هذا المنطلق، يصبح كل من يكره الناس على اعتناق دين محدد فهو مشرك بالله، حتى لو كان هذا الدين هو الإسلام بحد ذاته. فالله عز وجل أعطى الإنسان الحرية المطلقة في اعتناق أية ديانة، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، وبالتالي، فمن المستحيل أن يسمح لإنسان أو مجموعة من الناس، أن تمارس الإكراه في إجبار الناس على اعتناق دين ما. وينطبق هذا التعريف للشرك بالله على الشرك الدنيوي من معاملات تجارية وعلاقات اجتماعية إذا تخلله الإكراه.

الخاتمة

حاولنا في هذا البحث إلقاء الضوء على مفهوم "الشرك المتعدي"، الذي تتعدى آثاره الفاعل إلى المفعول به، وخاصة إذا ارتبط بإكراه الآخرين على الدخول في شراكة لا يرغبونها، وهذا الشرك قد يكون في أمور دنيوية، مثل العلاقات التجارية والاجتماعية، وقد يكون في أمور عقائدية (دينية). ويعتبر "الشرك بالله" من أخطر أنواع الشرك، لأنه يجعل من الله، عز وجل، وسيلة وأداة لتطبيق عملية الشرك، وهو من أُولى المحرمات في القرآن الكريم. ويتجلى هذا الشرك بأن تأتي بنصوص وأحكام من خارج كتاب الله، وتحاول أن تطبقها على الآخرين بالإكراه، وباسم الله. وهذا بلا شك هو الظلم العظيم الذي لا يغتفر، ومن يفعل ذلك فقد افترى إثماً عظيماً، وضل ضلالاً بعيداً، ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

ومن الأمور التي نهى الله عنها، أن تشرك أحداً بعبادتك لربك، أن تشرك غيرك بالإكراه، كأن تجبر الناس أن يصلوا معك، يصوموا معك، ويشاركوك في معتقداتك وعباداتك. أن تجعل من عبادتك لربك وسيلةً وسبباً تجعل فيه الآخرين شركاء لك.

ومن المفاهيم الخاطئة لدى عامة المسلمين، أن "الشرك بالله" هو بمفهوم "الشرك مع الله"، مع أن عبارة الشرك لم ترتبط مع الله في القرآن الكريم نهائياً. ودائماً جاء الشرك مرتبطاً بالله. والباء هنا هي باء الوسيلة، أو باء الاستعانة، أو باء السببية، مما يجعل الشرك بالله أخطر بكثير من الشرك مع الله.

أما الشرك العقائدي، والذي أطلقنا عليه اسم "الشرك اللازم" فآثاره تلزم الفاعل ولا تتعداه إلى الآخرين وإلى المجتمع ككل. هذا الشرك، قد يكون في أمور دنيوية، أو أمور عقائدية، وقد نهى الله عن عبادة أية آلهة غيره، إذ لابد وأن تودي بصاحبها إلى الضلال والضياع عن طريق الحق الذي أراده الله لعباده في هذه الحياة الدنيا.

وفي غياب الإكراه، سواء في الشرك الدنيوي أو العقائدي، تصبح العملية مشاركة وليست إشراك. والمشاركة هنا لابد وأن تكون برضا الأطراف المتشاركة من خلال الفعل "شَارَكَ" وليس "أَشْرَكَ". في هذه الحالة، كل طرف هو مسؤول عن نفسه، طالما اختار بإرادته، وفي يوم الحساب، لا تزر وازرة وزر أخرى، وكل آتي الرحمن فردا.

أما الحساب يوم القيامة، فلن يكون إلا على الأعمال فقط كما وضحته عشرات الآيات البينات في القرآن الكريم. ومن هذا المنطلق، نستنتج أن العقيدة أو الشرك العقائدي أو التوحيد هي أمور لها وزنها في الحياة الدنيا فقط، أما الأعمال فهي ما سيوضع في موازين يوم الحساب. فمن لم تثمر عقيدته وتوحيده لله عز وجل في أعمال صالحة، فقد خسر خسراناً كبيرا. وعلى العكس، من عمل صالحاً وآمن من حوله، فسيجزى على عمله الصالح بغض النظر عن أفكاره ومعتقداته ما لم تطال آثارها السلبية الآخرين كأفراد ومجتمع.

والله ولي التوفيق،

عزيزي القارئ: إذا كان لديك أي تساؤل أو اقتراح بخصوص ما جاء في هذا البحث فيمكنك مراسلتنا على البريد الإلكتروني [email protected]

الملحق

الجدول رقم 1: الآيات التي ورد فيها الفعل "أَشْرَك"

تتمة الجدول رقم 1

تتمة الجدول رقم 1

تتمة الجدول رقم 1

الجدول رقم 2: الآيات التي ورد فيها اسم الفاعل "مُشْرِك"

تتمة الجدول رقم 2

الجدول رقم 3: الآيات التي ورد فيها الصفة المشبهة "شُرَكَاء"