مثال لإستغلال الدّين في السياسة
مقال للباحث سامح عسكر
في العصر الأموي وقع الخلفاء المسلمين في خيار صعب بين أمرين كلاهما مر:
الأول وهو تبني (رأي الخوارج) بتكفير مرتكب الكبيرة..فيُصبح وقتها الخليفة كافرا إذا ظهرت عليه الكبائر ولو مرة واحدة، مما يعني أن صراع الأمويين ضد الخوارج في ذلك العصر كان عقائديا لصالح تنزيه الخليفة من الكفر وبالتالي وجوب اتباعه.
أما الخيار الثاني وهو (الإرجاء) الذي يقول بكفاية ذكر الإيمان باللسان لثبوته، وبالتالي منع التكفير وإرجاء الحكم على عقائد الناس إلى ربهم يوم القيامة، وذلك الخيار يعني براءة معارضي الخليفة من الكفر والردة..مما يلزمه عدم إصباغ القتال معهم برؤية عقائدية، فإذا علمنا بأن تلك الرؤية العقائدية مهمة جدا لحشد المقاتلين والمتطوعين للدفاع عن الخليفة يصبح الإرجاء ضد مصلحة الملوك قولا واحدا.
من هذا المنطلق بحث الخلفاء الأمويون عن معتقد جديد يبرر لهم البطش والأذى والتنكيل بالمعارضين فوجدوا ضالتهم في عقائد جديدة اصطلح عليها لاحقا باسم "مذهب السنة والجماعة" الذي يقضي بأن الإيمان يعلو بالطاعة وينقص بالمعصية، فصار من البساطة أن يطلق الخليفة أحكام الكفر والردة على المعارضين بدعوى معصيتهم وارتكابهم الخطيئة، لكن بقيت دعاوى الطاعة الأموية بحاجة لإثبات فوصل الفقهاء لفكرة (الجبر) وتعني أن سلطة الخليفة الأموي هي من قضاء الله وقدره في الكون، وقضاء الله النافذ يعني إرادته سبحانه مما يعني أن سلطة الخليفة هي إرادة الله في أرضه والشعب مجبول على طاعتها.
كانت خطة بارعة الذكاء من قِبَل الفقهاء حلّت معضلات الخوارج والإرجاء معا، وأعطت للخليفة سلطة إلهية بتفسير جديد للقرآن الكريم ونظرية جديدة عرفت لاحقا بالجبر، لكن هذه الخدعة لم تمر على أذكياء المسلمين فتصدى كبارهم لهذا التجني والظلم، فقالوا بمسئولية ملوك المسلمين عن أفعالهم واستحالة نسب هذه الأفعال لله..فبدأت قصصهم "بمعبد الجهني" الذي قتله عبدالملك بن مروان صلبا، ثم "غيلان الدمشقي" الذي قطع هشام بن عبدالملك يديه ورجليه ثم صلبه في نواحي دمشق، ثم "الجعد بن درهم" الذي قتله هشاما أيضا بواسطة أميره على الكوفة خالد بن عبدالله القسري الذي ذبح جعدا في عيد الأضحى قائلا قولته الشهيرة " أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر" وختمت حياة مشاهير العقلاء الأوائل بقتل "الجهم بن صفوان" لنفس السبب، وهو رفضهم جميعا لجبرية الخلفاء..
وقد قيل بأن آخر خلفاء بني أمية "مروان بن محمد" المتوفي عام 132هـ الشهير بالحمار متأثرا بالجعد بن درهم وقال بأفكاره القدرية ، وبالاستقراء نرى أن ذلك الخليفة سمي بالحمار لتأثره بعقلانية الجعد بن درهم الذي قتله أسلافه من ناحية ولنسبه الكردي لأمه من ناحية أخرى، فقد بلغ التعصب القبلي والمذهبي ذلك التوقيت مبلغا كبيرا هو الذي عصف بالدولة الأموية وفضّ من حولها الأنصار، وكأن ما زرعه الآباء حصده الأبناء..
في نهاية المطلف تم نسب هؤلاء المفكرين للقدر والتشنيع على عقائدهم واختلاق الحكايا عنهم والكذب عليهم بأوامر سياسية بدءا من العصر العباسي، فالمعدوم بقرار السلطة يحصل على تعاطف الجماهير لدعاية أنصاره بأن إعدامه نظير قول الحق والدفاع عن حقوق المظلومين من الشعب، لكن السلطة تستبق تلك العاطفة الشعبية بدعايا سوداء لتقبيح وشيطنة المعدومين كي لا يجدوا ثغرة للنفاذ إلى قلب وعقل الجماهير في وقت لاحق، أو لقطع الطرق على أنصارهم بالانتقام لاحقا..فما يفعلوه بالكذب على هؤلاء المعدومين وتصويرهم كأغبياء وشياطين سيمنع حشد الأنصار المتعاطفين وبالتالي قطع كل محاولات الانتقام والتشفي قبل الشروع فيها.
تم رفض فكرتيّ الإرجاء والخوارج لاحقا بعد التمعن فيها والتدقيق بجوانبها، فالإرجاء كان يعطي صفة الإيمان للفاسقين والعصاة، وبالتالي تجميل المعاصي والمنكرات وفقا لتصور الفقهاء في ذلك الزمن، والسبب أن غياب معنى الحريات أدى للقول بضرورة تصنيف الناس والبحث عن مصائرهم وعناوينهم يوم القيامة، فنحن نتحدث عن أحوال مسلمي القرن 7 و 8 حيث لا حقوق إنسان ولا عقد اجتماعي ولا ميثاق حريات ، فكل معايير الدنيا والدين متروكة لسلطة الخليفة الذي بيده الحُكم قولا واحدا، ليس فقط على الشعب وإجبارهم على الالتزام بالقانون..لكن أيضا على مصائرهم في الآخرة وأيهما في الجنة وأيهما في النار، ولا زال هذا التقليد الأموي سائرا وراسخا حتى اليوم في عقول وأفئدة شيوخ المسلمين الذين ورثوا تلك الثقافة أبا عن جد..والتي ورثوها بدورهم من السلطات المتعاقبة للحكم الأموي التي أنكرت على الأمويين أشياء كثيرة إلا هذا الأمر الذي رأوه قد يصب في صالحهم ودوام ملكهم.
فالسلطة السياسية ليست مجرد مشروع حكم، بل مشروعا دينيا دنيويا متكاملا يضع الخطط والمناهج..ويدعو للحروب والدعوة للإسلام ويحرس المعتقدات والثوابت ..إلخ، وبالاستقراء نرى أن تلك السلطة لم تكن متوفرة قبل العصر الأموي إلى منتصفه تحديدا فور رسوخ قيم ومعايير هذه السلطة الدينية، فالتراث الإسلامي يخلو من أحكام السلطة السياسية ضد خصومها بالكفر والبدعة قبل معاوية..وبرغم الحروب الطاحنة التي أعقبت موت الرسول لمدة 30 عاما حتى مقتل الإمام عليّ لم ينقسم المسلمون إلى فسطاطين إيمان وكُفر، حتى ادعاءات البعض بحرب المرتدين سقطت بأخبار التراث نفسه أنهم لم يكونوا مرتدين بل منعوا الزكاة وتمردوا على سلطة الخليفة أبي بكر..وأشهرهم "مالك بن نويرة" زعيم قبيلة بني يربوع التي شهدت كتب التراث بإسلامه ودفع الدية لأهله بعد مقتله..
والمشكلة أيضا كانت عند المعارضة باعتبارها سلطة سياسية محتملة، وقد حدث ذلك في الثورة العباسية والانقلاب الشيعي في الدولة وصعود سهم الموالي وغير العرب في الإدارة، وأبرز نموذج لذلك هي الرؤية الشيعية لفلسفة الحكم واعتبارها حقا إلهيا نصيا موروثا من آل محمد وفاطمة، وللقهر الذي وجدوه والقتل والمطاردات ثبت في ذهن الشيعي خطورة وقُبح "مذهب الإرجاء" باعتباره يعطي صفات الإيمان للأمويين الفاسقين الذين قتلوا الإمام الحسين في كربلاء، بل أزعم أن عداء الشيعة للمرجئة أكبر من عدائهم للخوارج ويحتل المرتبة الثانية بعد النواصب، أي بتصور بسيط أن خصوم الشيعي بالترتيب (نواصب – مرجئة – خوارج – سنة) فهم يضعون المذهب السني في مؤخرة الجدول لاعتبارات منها إمكانية التواصل معه في حب آل البيت الكامن في أرواح فقهائهم، لكنه لا يمكن ذلك مع النواصب المعادين لآل البيت ولا حتى المرجئة الذين يعتبرون النواصب مؤمنين صالحين.
أما موقف الشيعة من المعتزلة أو من سموا في بداياتهم بالقدرية لم يكن عنيفا لسبب وحيد، أن القدرية المعتزلة كانوا خطرا على الحكام الأمويين لا المعارضة، فهم الذين قالوا بمسئولية الحاكم عن أفعاله وأنها ليست من عمل الله، وقد رد الجبريون على القدرية بمعتقد (خلق الله للأفعال) الذي صنف فيه الإمام البخاري كتابا مخصوصا بعنوان "خلق أفعال العباد" فالبخاري كان جبريا في هذا الكتاب وقال بوضوح أن الله يخلق ويريد أفعال الإنسان بالمطلق..وما الإنسان سوى آلة في عالم الإرادة الإلهية، والطبيعي أن يرى البخاري القدريين والمعتزلة في هذا الكتاب كفارا بوصفهم أكثر خصوم مذهبه وأشدهم اعتراضا على هذا المذهب الجبري الذي صيغ بأبعاده كاملة في العصر الأموي.
ومثلما كان المعتزلة خطرا على السلطة الأموية أًصبحوا خطرا على الدولة نفسها بعد وصولهم للحكم في العصر العباسي، والتاريخ يحكي قصة الامتحان الشهيرة في عصر المأمون التي سجن فيها أحمد بن حنبل عام 217هـ وبعدها بعامين عذَّبه الخليفة المعتصم بالجلد لإجباره على قول المعتزلة..وعلى دربه سار الواثق إلى أن جاء المتوكل بالله وأخرجه من السجن ليبدأ فصلا جديدا من تاريخ المسلمين هو الذي يهيمن على الفكر الإسلامي لهذا اليوم، فيمكن اعتبار أن تاريخ المسلمين قبل المتوكل شئ وبعده شيئا مختلفا، ساعده في ذلك وثيقة الخليفة القادر بالله العباسي عام 408 هـ التي أقر فيها ثوابت المتوكل من ناحية وأضاف بعدا أشعريا ليصح الدين الأشعري هو الرسمي للدولة، علما بأن تاريخ المسلمين بعد وثيقة القادر لم يتخلص من ميراثها أبدا وظل دستورها هو المهيمن على قوانين العباسيين والمماليك والعثمانيين من بعد، حتى أنه دخل منظومة الفكر الإسلامي داخل جامعات المسلمين كالأزهر والقيروان وآل سعود.
هذا الدستور الإسلامي المهيمن يناصب للعقل العداء ويخاصم الفلاسفة وينظر للعلم بنظرة ازدراء، بينما يقدس الفقهاء والمحدثين الذين كانوا في زمن المتوكل وأبناءه المعروفين بأصحاب الكتب السنة (البخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داوود والترمذي والنسائي) لكن هذا التقديس لم يخلو من الخلاف فانشق المسلمين السنة فيه إلى أشاعرة وماتوريدية من جانب وحنابلة من جانب آخر، ومحور الخلاف أن الأوائل جمعوا بين العقل والنقل بأسلوب خاص..لكن الحنابلة كفروا بمطلق العقل وقالوا بتقديم النقل دائما، فحصل بمذهبهم ضعفا كبيرا هو الذي أضعفهم طوال التاريخ لاحقا بمقابل السلطة الأشعرية التي كانت ترى مذهب الأشاعرة أكثر منطقية واتساقا مع الشريعة والعقل والقرآن والمصلحة..
وتظل مشكلة الحنابلة الأبدية ليس فقط بتطرفهم في رفض العقل..لكن أيضا تطرفهم في قبول الأخبار الواهية التي أكثرت من التناقضات والمشاكل داخل المذهب ..للحد الذي صار فيه الحنبلي صاحب دين خاص مختلف عن عموم المسلمين ويقول بالتشبيه والتجسيم ويقبل بمرسل الصحابي وخبر الواحد في العقائد والدماء ..حتى صار الحنابلة أكثر فرق المسلمين على الإطلاق تكفيرا لغيرهم وعدوانية وهجوما من أجل الهجوم، وربما لو كانت هناك صلة بين الحنابلة وإمامهم الأول ستكون في مذهب أهل الحديث، لكن التطورات التي عانى منها المسلمون في العصور التي لحقت موت ابن حنبل لم تسمح بتطوير المذهب ليوافق رغبة الإمام الأول في التقيد بالحديث فقط دون الصدام مع الشريعة والعقل وعموم المسلمين في مسائل كالعنف والتكفير والتجسيم وغيرها، وتلك مشكلة عانى منها تلاميذ ابن حنبل الذين صاغوا مذهبه بأسوأ ما يكون كأمثال (ابن خزيمة والدارمي والبربهاري وابن بطة وابن تيمية..وغيرهم)
فتلاميذ ابن حنبل كانوا نكبة على مذهبه حتى صار لعنة على المسلمين في عصر الحضارة لتخرج من بين جنباته كافة جماعات العنف والإرهاب والقتل والوحشية المعاصرة كتنظيم القاعدة وداعش والتكفير والهجرة والإخوان ..وغيرهم، حتى أنهم أعادوا جرائم الأمويين ضد خصومهم بالحرف..لكن هذه المرة تحت عنوان "مذهب السنة والجماعة" الذي لم يكن موجودا بالعصر الأموي باعتبار أن المذهبية في ذلك العصر لم تعرف سوى الخوارج والشيعة ثم القدرية لاحقا، أما مصطلح السنة والجماعة فقد غاب عن معتقدات وألفاظ سلف المسلمين السنة أول 300 عام تقريبا، لدرجة أن البخاري ومسلم وهما عمدة تشكيل ذلك المذهب روائيا لم يسموا كتبهم بالسنة ولكن بالصحاح..إنما فعل ذلك تلاميذهم من بقية الكتب الأربعة "الترمذي والنسائي..إلخ" لتأتي وثيقة القادر بالله في القرن 5 هـ وبالاعتماد على مرجعية الإمام الطحاوي وغيره من الذين سددوا وقاربوا بين المذاهب ليظهر أخيرا مصطلح "السنة والجماعة" ليهيمن على الفكر الإسلامي والسلطة السياسية ل 1000 عام
والغريب أن هذه الجزئية لا يتطرق إليها أحد من معظم الباحثين في التاريخ والفكر الإسلامي، وهي غياب مصطلح السنة والجماعة عن سلف المسلمين أول 3 قرون، باستثناء رواية واحدة في سنن الترمذي من ضمن عشرات الآلاف من الروايات، مما يعني أن المواجهة في هذا الزمن كانت بين سلطات متغيرة هي التي حكمت منذ العصر الراشدي لمنتصف العصر العباسي..حتى جاء السلاجقة ومعهم الأيوبيون ليظهر ذلك المصطلح بعد غياب الفاطميين الأبدي، وأن المذكور في السابق هو مصطلح "السنة" و "أهل السنة" فقط بمعنى الطريقة والمنهاج ، والدليل على ذلك أن أحد كبار المذهب السني وهو الإمام "مالك" لم يُسمّ مذهبه بأهل السنة والجماعة، بل لم يسمي مذهبه مطلقا واعتمد منهجية "عمل أهل المدينة" لفهم الإسلام ، ثم جاء اتباعه ليضعوا عمل أهل المدينة كشرط لفهم السنة، حتى صار المذهب بالكامل في القرون اللاحقة معروفا بسنة أهل المدينة، مما يعني أن تلك السنة في بداياتها لم تظهر بشكل واحد بل ظهرت على عدة أشكال وأنماط مختلفة استقرت لاحقا منذ بدء العمل بها في المدارس الأربعة بالعصرين الأيوبي والمملوكي..