دور القرآن في بناء مجتمعات عادلة ومتوازنة
مقدّمة
القرآن الكريم
ليس كتاب أوامر ملزمة
ولا دستورًا لدولة
بل هو نص قيميّ إنساني
يوجّه الضمير ويهذّب السلوك
ويمنح الإنسان البصائر
التي تمكّنه من العيش في جنّة الأرض
قبل جنّة السماء
واجتياز اختبار الحياة بوعيٍ
وبأقلّ الأضرار الممكنة.
وحين يتديّن الإنسان بمفرده
فإنه يمارس الدين في أبعاده الروحية
لكن عندما يحاول فرض تدينه على الآخرين
فإنه يمارس السياسة لا الدين.
الخطر إذن ليس في الدين نفسه
وإنما في سعي رجال الدين إلى الحكم
ليحكموا باسم الدين
بينما الدين في أصله
لا يسعى إلى سلطة ولا إلى دولة.
وهنا يبرز السؤال الجوهري
هل جاء الدين ليؤسّس دولة باسم الله
أم ليهدي الإنسان ويصون كرامته؟
الدين ثابت في جوهره
بينما القوانين متغيّرة بحسب الزمان والمكان
ومن هنا يستحيل ربط الثابت بالمتغيّر
أو فرض التشريعات الدنيوية
باسم المطلق الديني.
وظيفة الدولة ليست إدخال الناس إلى الجنّة
ولا إنقاذهم من النار
بل توفير شروط العدل والحرية والكرامة والعلم والصحة والعمل
أما الجنة الأخروية
فمرهونة بإيمان الفرد وعمله الصالح.
لقد أثبت التاريخ أنّ العلمانية
لم تُضعف الدين
بل جعلته أكثر صفاءً وصدقًا
لأنه تحرّر من الإكراه
وأصبح إيمانًا حرًّا بعيدًا عن النفاق والوصاية.
ومن هذا المنطلق يتجلّى القرآن
باعتباره منظومة قيمية إنسانية
لا يضع أسس دولة دينية
بل يؤكد أنّ الدين
علاقة شخصية بين الإنسان وربّه
وأنّ المجتمع الرشيد
لا يُبنى إلا على الحرية والمساواة والشورى
بعيدًا عن الاستبداد واستغلال الدين في السياسة.
1- الحديث يبرر الاستبداد
بينما القرآن يفضحه!!!!!!!
من تبنّى النظام الديكتاتوري
حسب القرآن و الحديث؟؟؟؟؟
A- النظام الدّيكتاتوري حسب الحديث
مسلم 1847
قالَ
يَكونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ
1- لا يَهْتَدُونَ بهُدَايَ
2- وَلَا يَسْتَنُّونَ بسُنَّتِي
3- وَسَيَقُومُ فيهم رِجَالٌ
قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ في جُثْمَانِ إنْسٍ
قالَ: قُلتُ
كيفَ أَصْنَعُ يا رَسولَ اللهِ
إنْ أَدْرَكْتُ ذلكَ؟
قالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ
وإنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ
فَاسْمَعْ وَأَطِعْ.
الراوي : حذيفة بن اليمان | المحدث : مسلم 1847 | المصدر : صحيح مسلم
خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
يعرض لنا مسلم (1847)
حديثًا ينسب إلى الرسول عليه السلام
أن بعده سيأتي أئمة
لا يهتدون بهداه، ولا يتبعون سنّته
وتكون قلوبهم كقلوب الشياطين في أجساد بشر.
ثم يُطلب من المؤمن أن يسمع ويطيع لهم
حتى وإن ضُرب ظهره وأُخذ ماله.
بمنطق اليوم
هذا الوصف يجسّد نظامًا ديكتاتوريًا صريحًا
حيث يُلغى الحقّ في الاعتراض
وتُفرض الطاعة العمياء حتى في الظلم.
إنه حديث صِيغ
ليُعطي غطاءً دينيًا لاستبداد الخلفاء
وليبرّر طغيانهم تحت عنوان “السمع والطاعة”.
بهذا تأسس دين جديد على مقاس السلاطين
دين يبتعد كل البعد عن القرآن الذي جعل الحرية والعدل أساسًا للحياة.
لقد كان ذلك استهتارًا بعقل الإنسان وفطرته
وتحويرًا للرسالة النبوية إلى أداة سياسية بحتة.
B- النظام الدّيكتاتوري من قصص القرآن
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا
قَالَ فِرْعَوْنُ
مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى
وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ
(سورة : 40 - سورة غافر, اية : 29)
يقدّم القرآن نموذجًا صارخًا للاستبداد في قصة فرعون
حين قال لقومه
"ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
هنا يتجلى جوهر النظام الديكتاتوري
الحاكم يحتكر الحقيقة
ويتحكم في معتقدات الناس
ويزعم أنه وحده الهادي.
وبذلك يلغي حرية التفكير والاختيار
وهو ما يناقض المنظومة القرآنية
القائمة على الشورى والعدل والمسؤولية الفردية
كما سنرى لاحقا.
فالقرآن يكشف هذا السلوك كطريق إلى الهلاك
لا إلى الرشاد.
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى
(سورة : 79 - سورة النازعات, اية : 24)
يصل الاستبداد مع فرعون إلى قمّته
حين قال
"أنا ربكم الأعلى"
أي حين جعل من نفسه إلهًا فوق البشر جميعًا
يتحكم في مصائرهم ومعتقداتهم.
إنه النموذج القرآني للديكتاتورية المطلقة
التي تلغي كرامة الإنسان وحريته
وتحوّل الحكم إلى عبودية.
يُظهر لنا القرآن كيف يلجأ المستبدون إلى كل الحيل
لتشويه خصومهم وتقويض مصداقيتهم أمام الناس.
ففرعون اتهم موسى عليه السلام بأنه خارج عن النظام
"إن هؤلاء لشرذمة قليلون"
وحذّر قومه من خطره على الدين
"إني أخاف أن يبدل دينكم"
بل شن حملة إعلامية ضده بوصفه ساحرًا
"إن هذا لساحر مبين".
وبالأسلوب نفسه
واجهت قريش الرسول الحبيب
فاتهمته بالتخابر مع قوى أجنبية
"إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون".
إن هذه الأساليب واحدة في جوهرها:
صناعة الخوف والتشويه لحماية سلطة باطلة
بينما النص القرآني يكشفها ويفضحها
باعتبارها أدوات الاستبداد ضد حرية الإنسان وكرامته.
ملاحظة جميلة ل Badr Hajri
بتصرّف كبير جدا
2- تعريف العلمانية و الديموقراطية
و مبادؤها المعترف بها على الصعيد العالمي
A- تعريف الدموقراطية
تعود الديمقراطية في الأساس إلى اللغة اليونانية القديمة
وتحديداَ من كلمتين
الأولى وهي ديموس Demos وتعني الشعب
والثانية قراطس Kratos وتعني السلطة أو الحكم
وبذلك يكون تعبير الديمقراطية بمعنى
الحكم من قبل الشعب Demoskratos .
عرفها أبراهام لينكولن كما يلي
الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة الشعب ولأجل الشعب.
(المصدر: https://political-encyclopedia.org/)
B- تعريف العلمانية التي تضمن
بناء مجتمعات عادلة ومتوازنة
العلمانية تعني الفصل بين الدولة والمنظمات الدينية.
وينتج عن هذا الفصل
حياد الدولة والسلطات المحلية والخدمات العامة
وليس مستخدميها.
وهكذا فإن الجمهورية العلمانية تفرض المساواة بين المواطنين
في مواجهة الإدارة والخدمة العامة
مهما كانت قناعاتهم أو معتقداتهم.
العلمانية تعني حياد الدولة
وتفرض المساواة بين الجميع أمام القانون
دون تمييز على أساس الدين أو المعتقد.
العلمانية تضمن حرية الفرد سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن
في حرية التعبير عن معتقداته أو قناعاته
وإظهارها في حدود احترام النظام العام
كما أنها تضمن الحق للجميع
بتبنّي دين معيّن أو تغييره أو رفضه
كما تضمن حرية ممارسة العبادة
مع عدم إجبار الأشخاص
على احترام العقيدة أو التعاليم الدينية.
العلمانية ليست رأيًا واحدًا من بين آراء عديدة
بل هي الحرية في التعبير عن الرأي.
إنها ليست قناعة ولكنها تسمح بكلّ القناعات
مع مراعاة احترام النظام العام.
(المصدر: الموقع الرسمي للحكومة الفرنسية https://www.gouvernement.fr/)
C- مبادئ الديموقراطية و العلمانية
1- الدموقراطية
==> مبدأ الشورى في القرار
2- المبادئ الثلاث للعلمانية
A- المبدأ الأول
فصل الدين عن الدولة
==> لا يحقّ للدّولة فرض دين واحد بالقوّة
B- المبدأ الثاني
حماية حرية التعبير و العقيدة.
==> الحرّيّة الكاملة في التعبير والعقيدة
لكلّ المواطنين
C- المبدأ الثالث
المساواة بين جميع أطياف المجتمع
سواء كانوا متدينين أو غير متدينين
==> المساواة بالنسبة
للجميع كيفما كانت عقيدتهم
هذه المبادئ الأربعة
هي التي تسمح
بنهوض المجتمعات و ازدهارها
3- لنرى هل يُشجّع القرآن
على تبنّي العلمانيّة؟
A- مبدأ الشورى أو الدّيموقراطية
مبدأ الشورى
الذي يؤكده القرآن
يجد اليوم ترجمته العملية في النظم الديمقراطية.
فالشورى الحديثة تتم داخل البرلمانات المنتخبة من طرف الشعب
حيث تُناقش القوانين وتُفعَّل بعد التشاور الجماعي.
والعلمانية بدورها تضمن أن يكون هذا التشاور متاحًا للجميع
بغض النظر عن دياناتهم أو معتقداتهم
لأن معيار المشاركة هو المواطنة لا الانتماء الديني.
1- القرآن يضمن مبدأ الشورى
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
1- وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
2- وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
(سورة : 3 - سورة آل عمران, اية : 159)
تضع هذه الآية أساسًا محوريًا
لبناء مجتمع عادل ومتوازن
من خلال مبدأ الشورى.
فقد أمر الله رسوله أن يقود قومه في المدينة
بروح اللين وحسن الخلق
لا بالفظاظة ولا بغلظة القلب
لأن انعدام القيم عند الحاكم
ينفّر الصالحين ويجذب المنافقين المتملّقين.
وقد حظي الرسول بثقة مختلف الأطياف الدينية والإثنية في يثرب
بصفته قائدًا للجماعة السياسية الجديدة
لا بصفته الدينية
فكان يشاور قومه في شؤونهم العظمى
ثم يعزم متوكّلًا على الله.
وهكذا صارت الشورى ملزمة للحاكم
فهي شرط لنجاح القيادة الرشيدة
وضمانة لإشراك المواطنين في القرار العام.
وبذلك يقدّم القرآن نموذجًا إنسانيًا للحكم
قائمًا على القيم
وعلى مشاورة الناس
لا على الاستبداد أو الوصاية.
B-
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى
1- لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
2- وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
3- وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
4- وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
5- وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ
6- وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
(سورة : 42 - سورة الشورى, اية : 38)
الآية تبيّن أن ما عند الله خير وأبقى
لمن جعلوا حياتهم قائمة على قيم أساسية
الإيمان، اجتناب الكبائر، الغفران عند الغضب، إقامة الصلاة، والإنفاق.
وفي قلب هذه القيم يبرز مبدأ الشورى
وأمرهم شورى بينهم
أي أن القرار العام لا يقوم على الرأي الأحادي
بل على التشاور والتوافق.
فإذا استبدّ فرد واحد بالقرار
انفصم عقد الجماعة السياسي
أما بالشورى
فيبقى المجتمع متماسكًا وعادلًا ومتوازنًا.
C-
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
1- أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ
2- وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 59)
الآية تضع ضوابط الطاعة في المجتمع المؤمن
طاعة الله وطاعة الرسول
تعني الالتزام بالمواعظ الإلهية التي جاء بها القرآن
لا الخضوع لأوامر شخصية أو سلطة مطلقة.
ثم يلفت النص الانتباه بدقة حين يقول
"أولي الأمر منكم"
ولم يقل
"أولي الأمر عليكم"
أي أن القيادة لا تُفرض بالقهر من فوق
بل تنبثق من داخل الجماعة بالتراضي والاختيار الحرّ.
وهكذا تصبح طاعة أولي الأمر
مشروطة بشرعيتهم المستمدة من الناس
انسجامًا مع مبدأ الشورى
الذي يجعله القرآن أساس الحكم العادل والمتوازن
بعيدًا عن الاستبداد والديكتاتورية.
خلاصة
نلاحظ أن النص القرآني
من خلال هذه الآيات
قد حقق الشرط الأول لبناء مجتمع عادل
وهو مبدأ عدم الانفراد بالقرار السياسي.
فلا يمكن أن يتحقق العدل
إلا بأن يحكم الشعب نفسه بنفسه
عبر مبدأ التشاور الذي يجسّد جوهر الديمقراطية القرآنية
"وأمرهم شورى بينهم".
ولهذا لا مكان للمطلق الديني
في تسيير الشؤون الدنيوية
لأي جماعة بشرية.
وقد تجلى هذا المبدأ عمليًا
في سلوك الرسول الكريم مع مكونات مجتمع المدينة
حيث كان قائداً يشاور قومه في شؤونهم العامة
رغم اختلاف أديانهم وانتماءاتهم.
فالقرآن يبرز الشورى كركيزة أساسية للحكم العادل
القائد لا يُفرض على الناس
بل يكون "منهم" وبالتراضي بينهم،
وطاعته مشروطة بشرعية مستمدة من الجماعة.
كما يَشترط النص
أن تُمارس الشورى بروح القيم
اللين والرحمة وتجنب الفظاظة
وإلا نفر الصالحون وحضر المنافقون.
وهكذا يجعل القرآن من الشورى
ضمانة لقيادة رشيدة
وتسيير جماعي يقوم على المشاركة والعدل
بعيدًا عن الاستبداد والانفراد بالرأي.
B- القرآن يضمن فصل الدين عن الدولة.
العلمانية ليست رفضًا للدين
بل إطار يضمن للدين أن يبقى
حرًّا صادقًا بعيدًا عن الإكراه والاستغلال.
فهي تقوم على مبدأ أساسي
فصل التشريعات الدينية البشرية عن سلطة الدولة.
فلا يجوز للدولة أن تفرض دينًا بعينه على مواطنيها
ولا أن تميّز بين الأديان أمام القانون
لأن معيار المواطنة هو المساواة والكرامة لا الانتماء الديني.
كما أن العلمانية تفصل بين رجال الدين والسلطة السياسية
لأن مكان رجل الدين هو المعبد
لا مجلس القرار.
فالقرآن ذاته لم يعترف بمهنة “رجل الدين”
بل جعل العلاقة بين الإنسان وربه مباشرة
دون وساطة.
وبذلك تتحقق مصلحتان معًا
الدين يظل صادقًا حرًّا بعيدًا عن النفاق والانتهازية
والسياسة تُدار بالعدل والمشاركة دون استغلال العقائد.
ولولا العلمانية
لما تمكنت مسلمة محجبة مثل إيمان الخطيب
من دخول البرلمان الإسرائيلي
ولا وصل كثير من المسلمين في الدول المتقدمة غير المسلمة
إلى مناصب وزارية ومواقع قرار.
إن فصل الدين عن السياسة
ليس خصومة مع الدين
بل حماية له
وضمان أن يبقى المجتمع قائمًا على الحرية والكرامة والعدالة
وهي القيم التي يؤكدها النص القرآني
باعتباره منظومة قيمية إنسانية لبناء مجتمعات متوازنة.
1- النصّ القرآني واضح
لا يجوز فرض الدّين على الناس
فرْضُ الدّين ليس من إختصاص الدّولة
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(سورة : 2 - سورة البقرة, اية : 256)
تُؤسّس هذه الآية
لواحدة من أعظم القيم الإنسانية في القرآن:
حرّية الاعتقاد.
فالإيمان لا يكتسب قيمته
إلا إذا كان وليد الاقتناع الحرّ
لا نتيجة الإكراه.
ولهذا رفض النص القرآني
أن تُفرض العقيدة بالقوة
أو أن تتحول الدولة إلى سلطة
تُكره الناس على التشريعات الدينية.
كما تبرز الآية مبدأً أخلاقيًا جوهريًا لبناء مجتمع متوازن:
أن يُترك لكل فرد مجال الاختيار بين الصواب والخطأ
بين الإيمان والطاغوت
ليُحاسب على قراره في يوم الحساب.
فالمجتمع العادل لا يقوم على الإكراه
بل على الحرية، المسؤولية، والوعي.
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
(سورة : 10 - سورة يونس, اية : 99)
تضع هذه الآية أساسًا قيميًا عظيمًا
لبناء مجتمع عادل ومتوازن
إذ تؤكد أن الإيمان لا يُفرض بالقوة ولا يُنتزع بالإكراه
بل يُبنى على حرية الاختيار.
فالله
- وهو القادر على أن يجعل جميع البشر مؤمنين-
اختار أن يترك لهم حرية القرار
لأن العدالة لا تتحقق
إلا حين يُمارس الإنسان قناعته
عن وعي وإرادة.
ومن هنا يبيّن النص القرآني أن أي سلطة بشرية
بما في ذلك الدولة
لا تملك حق فرض دين أو عقيدة
لأن ذلك يناقض جوهر القيم الإنسانية
التي يقوم عليها المجتمع المتوازن.
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(سورة : 28 - سورة القصص, اية : 56)
الآية تبيّن أن الهداية شأنٌ إلهي خالص
فلا النبي ولا الدولة يملكان فرضها
لأنها تقوم على حرية الاختيار
التي صانها القرآن
كأساس للعدالة الإنسانية.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ
(سورة : 2 - سورة البقرة, اية : 272)
الآية تؤكد أن الهداية اختيار شخصي خالص
لا يفرضه حتى الرسول
وهو ما يرسّخ مبدأ أن الدين شأن فردي
لا يخضع لسلطة بشرية
أساسٌ لبناء مجتمع عادل ومتوازن.
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
(سورة : 88 - سورة الغاشية, اية : 21 - 22)
الآية تحدد وظيفة الرسول الحبيب
بالتذكير لا بالسيطرة
مما يؤسس لمبدأ إنساني
دور الدولة هو ضمان كرامة الناس وعيشهم الكريم
لا فرض الوصاية على عقولهم.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ
(سورة : 50 - سورة ق, اية : 45)
الآية تنفي عن الرسول صفة الجبّار
مؤكدة أن التذكير بالقرآن
لا الإكراه هو الطريق
وبذلك يصبح فرض الدين بالقوة
عملاً سياسياً
لا علاقة له بروح الإسلام.
الدولة تملك سلطة الإكراه
والدين لا يملك هذه السلطة
لكن عندما نقحم الدين في السياسة
يصبح الدين مالكا لسلطة الإكراه
التي نفاها القرآن عنه
وهي من مقتضيات السياسة والقضاء (الدولة).
خلاصة
يتضح من خلال هذه الآيات
أن القرآن يؤسس لمبدأ جوهري
الدين لا يُفرض بالقوة
ولا يُختزل في سيطرة الدولة على العقول
بل يقوم على حرية الإنسان في الاختيار
ومسؤوليته أمام الله.
وهكذا يقدّم النص القرآني
منظومة قيمية إنسانية
تجعل الحرية والكرامة أساسًا لبناء مجتمعات عادلة ومتوازنة
حيث الدولة تؤمّن العيش الكريم
والناس يُتركون ليختاروا إيمانهم عن وعي وإرادة.
2- الدّولة لم تأخد وكالة من عند الله
حتّى تفرض دينا معيّنا
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ
فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
(سورة : 39 - سورة الزمر, اية : 41)
إذا كان الرسول غير مكلّف بالوصاية على إيمان الناس
فكيف يجوز للدولة أن تدّعي هذه الوكالة
وتفرض العقائد بالقوة؟
إن دور الدولة
وفق المنظومة القيمية القرآنية
يقتصر على ضمان الكرامة والعدل والعيش الكريم
لا على التدخل في ضمائر الأفراد أو فرض الدين بالقهر.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا
(سورة : 25 - سورة الفرقان, اية : 43)
الآية تبيّن أن الرسول
ليس وكيلاً على من جعل هواه إلهًا له
لأن حرية الاعتقاد شأن شخصي
لا يخضع لوصاية بشرية.
وإذا كان النبي نفسه لم يُكلّف بالوصاية على المعتقدات
فكيف للدولة أن تدّعي هذه الوكالة؟
فالنص القرآني يؤسس بوضوح
لفصل الدين عن سلطة الدولة
ضمانًا لحرية الناس وكرامتهم وعيشهم الكريم.
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ
قُلْ: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
(سورة : 6 - سورة الأنعام, اية : 66)
حتى حين كذّب قومه بالقرآن وهو الحق
صرّح الرسول
"لستُ عليكم بوكيل".
فالنبي لم يُعطَ وكالة من عند الله
ليفرض الإيمان أو يمنع التكذيب
فكيف بالدولة أن تدّعي ما لم يُعطَ حتى لرسول الله؟
إن النص القرآني يقطع الطريق
أمام كل سلطة تريد فرض الدين بالقهر
ضمانًا لحرية الناس وكرامتهم.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
مَا أَشْرَكُوا
وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
(سورة : 6 - سورة الأنعام, اية : 107)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
(سورة : 10 - سورة يونس, اية : 108)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ
فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
(سورة : 39 - سورة الزمر, اية : 41)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
(سورة : 42 - سورة الشورى, اية : 6)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
(سورة : 17 - سورة الإسراء, اية : 54)
فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ
وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ
(سورة : 42 - سورة الشورى, اية : 48)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
(سورة : 6 - سورة الأنعام, اية : 104)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 80)
تتكرر في هذه الآيات عبارة
"وما أنت عليهم بوكيل / بحفيظ"
لتؤكد حقيقة قرآنية مركزية
أن وظيفة الرسول تقتصر على التبليغ والتذكير
لا على فرض الإيمان أو مراقبة الضمائر.
فالهداية شأن شخصي ومسؤولية فردية
لا تملك الدولة ولا أي سلطة بشرية
أن تدّعي الوصاية عليها.
ومن ثم يضع النص القرآني أساسًا قيميًا
لفصل الدين عن سلطة الدولة
فالإيمان حرية لا تُصادر
وحرية الاختيار هي الطريق الوحيد
لبناء مجتمع عادل ومتوازن
يصون كرامة الناس ويضمن لهم عيشًا كريمًا.
3- الله هو الّذي يدافع عن الّذين آمنوا
و ليس الدّولة الّتي تدافع عن الّذين آمنوا
حسب دين معيّن من دون الأديان الأخرى
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
(سورة : 22 - سورة الحج, اية : 38)
تؤكد الآية أن الله هو الذي يتكفّل بالدفاع عن الذين آمنوا
لا الدولة.
فالإيمان علاقة شخصية بين العبد وربه
والله غنيّ عن العالمين.
أما حين تدّعي الدولة الدفاع عن دين بعينه ضد غيره
فإنها تنحرف عن القيم القرآنية
وتحول الدين إلى أداة تمييز سياسي
الشيء الذي يؤدي إلى الاحتقان
بدل تحقيق العدل والطمأنينة.
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(سورة : 3 - سورة آل عمران, اية : 176)
الآية تبيّن أن الرسول
لم يُكلف بمطاردة من اختار الكفر بإرادته الحرة
بل ترك أمرهم إلى الله.
وهذا يعني أن الإيمان والكفر شأنان شخصيان
لا يدخلان في صلاحيات السلطة البشرية.
لذلك لا يجوز للدولة
أن تُقحم الدين في السياسة
بحجة الدفاع عن الله أو عن الدين
فالله غني عن العالمين
ولا يحتاج من يحامي عنه.
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ
لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(سورة : 3 - سورة آل عمران, اية : 177)
الآية تبيّن أن من اختار الكفر
لن يضر الله شيئًا
لأن الله غني عن الناس جميعًا.
لذلك لا يحق للدولة
أن تفرض دينًا باسم الله
فالإيمان والكفر لا يزيدان في ملكه ولا ينقصان منه
وإنما هي حرية ومسؤولية فردية أمام الله وحده.
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ
وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ
وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(سورة : 39 - سورة الزمر, اية : 7)
تؤكد الآية أن الله غني عن الناس
لا يضرّه كفرهم ولا يزيده إيمانهم
وإنما كل إنسان مسؤول عن نفسه
"ولا تزر وازرة وزر أخرى".
ومن هنا يتبيّن أن فرض الدولة
لدين بعينه باسم الله
يناقض روح القرآن
لأن المجتمع العادل والمتوازن
لا يقوم على الإكراه في الاعتقاد
بل على حرية الفرد ومسؤوليته الشخصية أمام خالقه.
خلاصة
لم يكلف الله أحدا بالدفاع عنه أو عن الدين
بل تخبرنا الآية بأنّه هو الذي يدافع عن المؤمنين
وبهذا لا يمكن للشيوخ الادعاء
بأنهم حملة راية الدفاع عن الدين
قولا وفعلا
أو أنهم ناطقون رسميون باسم الله
وموقعون بالنيابة عنه
لأن هذا الادعاء يخالف الآيات جملة وتفصيلا.
من يدعي أن الدين جاء بمشروع سياسي
فقد كذب على الله و رسوله
محمد حامد بتصرف كبير
C- القرآن
يحمي حرية العقيدة و التعبير.
القرآن قدّم نموذجًا في حرية الاعتقاد
ونبينا الحبيب
الذي كان على خُلُق عظيم
لم يفرض الإيمان على أحد
بل احترم حرية الناس في معتقداتهم وخياراتهم.
وهذا ما تترجمه العلمانية اليوم
فهي لا تسلب الإنسان إيمانه
لكنها تمنعه من فرض معتقده على غيره
وتحمي حق الآخر في معرفته كما هو
ليقرر بحرية أن يقترب منه أو يبتعد عنه.
العلمانية تحمي كل الأديان بالتساوي
بينما الدولة الدينية
لا تحمي إلا دينًا واحدًا وتفرضه بالقوة.
ولولا العلمانية لما استطاع المسلمون في الدول غير المسلمة
أن يستوردوا ويبيعوا ويقرأوا القرآن بحرية
في حين أن كثيرًا من الدول المسلمة
تمنع تداول الإنجيل.
ولولاها أيضًا
لما دُرّست اللغة العربية في مدارس الغرب
ولا أُقيمت المساجد في أوروبا وأمريكا
بينما يرفض بعض فقهائنا
بناء الكنائس والمعابد في بلداننا.
حتى صلاة المسلمين في شوارع مدن الغرب
والتي يراها البعض تعبيرًا عن إيمانهم
هي في الحقيقة شهادة على عظمة العلمانية
التي سمحت لهم بممارسة شعائرهم بحرية كاملة.
وهكذا يتبيّن أن العلمانية ليست خصمًا للدين
بل حامية له
ضامنةً لحرية الإنسان وكرامته
انسجامًا مع روح القرآن.
1- القرآن يصدّق الكتب التي جاءت قبله
1-
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا
أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 47)
في هذه الآية يخاطب الله أهل الكتاب
طالبًا منهم الإيمان بالقرآن
لا لأنه يلغي كتبهم أو ينسخها
بل لأنه "مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ".
أي أن القرآن جاء ليؤكد الأصل الواحد للرسالات السماوية
ويثبت أن الهداية لم تُحصر في كتاب واحد أو أمة واحدة.
ومن هنا يتجلى أن القرآن يحمي حرية العقيدة والتعبير
لأنه يعترف بالكتب السابقة ويصدقها
ويجعلها أساسًا للتلاقي والتعايش بدل الإقصاء والإنكار.
2-
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ
هُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ
(سورة : 35 - سورة فاطر, اية : 31)
الآية تؤكد
أن ما أُوحي إلى الرسول من الكتاب
هو الحق
وأنه "مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ".
أي أن القرآن لا ينقض ما سبقه من الوحي الإلهي
بل يصدّقه ويؤكده.
وبهذا يرسّخ النص القرآني مبدأ وحدة الرسالات السماوية
ويجعلها جميعًا جزءًا من منظومة قيمية واحدة
قوامها العدل والحرية والكرامة الإنسانية.
2- أمر نبيّنا الحبيب أهل الكتاب
بتفعيل كتبهم على أرض الواقع
و ليس اتباع القرآن
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا
1- التَّوْرَاةَ
2- وَالْإِنْجِيلَ
3- وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ
لَأَكَلُوا
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 65 - 66)
يبين القرآن أن الهداية لا تتحقق حصريًا عبر اتباع كتاب واحد
بل عبر إقامة كل أمة لكتابها الإلهي.
ففي سورة المائدة (65–66)
يؤكد الله أن أهل الكتاب لو آمنوا واتقوا
وأقاموا التوراة والإنجيل
وما أنزل إليهم من ربهم
لتمتعوا بخيرات الأرض
ولغفر لهم سيئاتهم
ولأدخلهم جنات النعيم.
أي أن التمسك بالكتب الإلهية
كلٌّ بحسب ما أُوحي إليه
يقود إلى حياة العز والكرامة.
وهذا ينسف فكرة الدعوة إلى ترك الكتب السابقة
واتباع القرآن وحده
لأن النص صريح في مطالبتهم بتفعيل كتبهم لا التخلي عنها.
وبعد ذلك كلّف الله الرسول بتبليغ القرآن (الآية 67)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 67)
دون أن يطلب منه مصادرة كتبهم
بل نصحهم بعدم التفريط فيها.
وهكذا يتضح أن القرآن يرسخ مبدأ التعايش والاعتراف المتبادل
باعتبار أن جميع الرسالات تصبّ في منظومة قيمية واحدة
هدفها بناء مجتمع قائم على الإنصاف والانسجام.
الآية 68
قُلْ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ
حَتَّى تُقِيمُوا
1- التَّوْرَاةَ
2- وَالْإِنْجِيلَ
3- وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
طُغْيَانًا وَكُفْرًا
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 68)
يوجّه القرآن خطابه إلى أهل الكتاب
فيدعوهم لا لترك كتبهم واتباع القرآن
بل
لإقامة التوراة والإنجيل
وما أُنزل إليهم من ربهم.
فالمسألة ليست في تبديل الدين
وإنما في تفعيل الرسالة الإلهية في واقع الحياة.
هذا التوجيه يعكس أن النص القرآني
باعتباره منظومة قيمية إنسانية،
يرسّخ مبدأ احترام التعدد الديني
ويعتبر أن إقامة القيم المشتركة بين الكتب السماوية
هو السبيل لبناء مجتمع
يسوده العدل والتكافؤ
قائم على التعايش لا على الإقصاء.
3- القرآن يدعو لعدم الإضافة و التغيير في الدين
قُلْ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ
وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ
قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
وَأَضَلُّوا كَثِيرًا
وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 77)
في هذه الآية
يخاطب القرآن أهل الكتاب ناصحًا إياهم
"لا تغلوا في دينكم غير الحق".
أي لا تضيفوا إلى كتبكم ما ليس من الوحي الإلهي
ولا تتبعوا أهواء من ضلوا وأضلوا.
فالقرآن لا يطلب منهم ترك التوراة أو الإنجيل لاتباعه
بل يدعوهم إلى الانضباط في التعامل مع كتبهم الأصلية
والالتزام بالحق الإلهي
دون تشريعات بشرية دخيلة.
وهكذا يؤكد النص القرآني
باعتباره منظومة قيمية إنسانية
أن أساس بناء مجتمع راشد ومستقر
هو احترام كل جماعة لكتابها الإلهي كما أنزل
بعيدًا عن الغلوّ أو التحريف أو الإكراه.
4- يدعو القرآن أهل الكتاب
للإعتماد على كتبهم في أحكامهم
و ليس على القرآن
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ؟
وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ
ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 43)
لو كانت هذه الكتب محرّفة أو باطلة
لما نصحهم القرآن بالاحتكام إليها.
وهذا يثبت أن النص القرآني يقرّ بشرعية التوراة والإنجيل
ويعتبرهما مرجعًا إلهيًا قائمًا.
إن هذا الاعتراف المتبادل بين الكتب السماوية
يعكس رؤية قرآنية تقوم على احترام التعدد الديني
وتفتح الطريق لبناء مجتمع
أساسه القيم المشتركة لا الإقصاء ولا الإكراه.
2-
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 47)
يصف القرآن من لا يحكم بما أنزل الله بالفاسق.
هذا دليل قاطع على أن الإنجيل
في عهد نزول القرآن
لم يكن مزورًا ولا فاقدًا لصدقيته
وإلا لما أمر القرآن أهل الكتاب بالرجوع إليه.
وهكذا يرسّخ النص القرآني
باعتباره منظومة قيمية إنسانية
مبدأ الاعتراف بالكتب السابقة كمرجع إلهي
ويدعو إلى احترام التعدد الديني
كأساس لبناء مجتمع
مبنيِِّ على الحرية والكرامة.
5- يضمن القرآن حرّية ( التعبير - المعتقد - الأعمال)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ
- نَفَقًا فِي الْأَرْضِ
- أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ
فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ
(سورة : 6 - سورة الأنعام, اية : 35)
تدخل أي بشر في معتقدات الناس يُعدّ جهلًا
حتى لو كان نبيًا.
القرآن يقرر أن
الله لو شاء
لجمع الناس جميعًا على الهدى
لكنه لم يشأ ذلك
لأن الاختلاف في المعتقد جزء من الفطرة الإلهية.
ومن هنا يتضح أن محاولة جمع البشر على دين واحد أو عقيدة واحدة
أو إقامة دولة على أساس ديني تفرض الإيمان بالقوة
إنما هو جهل يناقض سنة الله في خلقه.
فالقرآن
باعتباره منظومة قيمية إنسانية
يضمن حرية التعبير والمعتقد والعمل
ويجعل التعددية أساسًا لبناء
مجتمع
منصف متماسك
يحترم التعددية
فتسوده العدالة.
قُلْ
كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا
(سورة : 17 - سورة الإسراء, اية : 84)
يقرر القرآن مبدأ الحرية الفردية الكاملة
"كلّ يعمل على شاكلته".
أي أن لكل إنسان أن يسلك الطريق الذي يراه صحيحًا
بفكره واختياره الحرّ
دون تدخل بشري في معتقداته أو أعماله.
فالله وحده هو الأعلم بمن هو أهدى سبيلًا
وهو وحده صاحب الحكم النهائي.
وهذا يرسخ أن النص القرآني يحمي حرية الفكر والعمل
ويجعلها أساسًا من أسس المجتمع السليم
في قيمه وتوجهاته.
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ
قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
(سورة : 39 - سورة الزمر, اية : 14 - 15)
يعلن القرآن بوضوح أن عبادة الله
خيار شخصي للنبي
"قل الله أعبد مخلصًا له ديني"
ثم يترك للناس الحرية التامة
"فاعبدوا ما شئتم من دونه".
هذا التصريح يؤكد
أن الإسلام لا يقوم على الإكراه في الدين
بل على حرية العبادة والاختيار الفردي.
وهكذا يجعل النص القرآني من حرية المعتقد
ركيزة أساسية لبناء مجتمع
متوازن قيميًا وأخلاقيًا
يحفظ حقوق الجميع،
حيث يُحاسب كل إنسان على اختياراته
أمام الله وحده.
وَقُلِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ
بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا
(سورة : 18 - سورة الكهف, اية : 29)
يضع القرآن قاعدة صريحة
"فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".
أي أن للناس كامل الحرية في الاختيار
بين الإيمان والكفر
دون إكراه أو عقوبة دنيوية
لأن الحساب مؤجل إلى يوم القيامة.
وهكذا يؤكد النص القرآني
أن حرية المعتقد حقّ أصيل
ليبنى بذلك مجتمع متوازن
يقوم على الحرية والكرامة الإنسانية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 105)
يخاطب القرآن المؤمنين
"عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم".
أي أن مسؤولية الإنسان تنحصر في نفسه
ولا ينبغي له التدخل في معتقدات الآخرين
أو ملاحقتهم بسبب ضلالهم المزعوم.
فالله وحده من يحاسب الجميع يوم القيامة.
وهكذا يضع النص القرآني
أساسًا لمجتمع سليم و منصف
يقوم على
حرية المعتقد
وتحمل الفرد لمسؤوليته الشخصية
دون وصاية على غيره.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
(سورة : 109 - سورة الكافرون, اية : 1-6)
سورة الكافرون
تمثل إعلانًا قرآنيًا صريحًا لحرية المعتقد
"لكم دينكم ولي دين".
لم يتدخل القرآن في فرض دينه على الآخرين
بل ترك لكل إنسان حقه في اختيار معتقده.
وهذا المبدأ يجعل من الإسلام
دينًا
يحترم التعددية
ويؤسس لمجتمع متماسك متآزر
يقوم على حرية الاعتقاد والتعايش السلمي
بعيدًا عن الإكراه والتسلّط.
قُلْ: لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا
وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(سورة : 34 - سورة سبأ, اية : 25)
يقرر القرآن قاعدة واضحة
"لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون".
أي أن كل إنسان مسؤول عن أعماله أمام الله وحده
دون وصاية أو محاسبة من الآخرين
على معتقداتهم أو أفعالهم.
فلا أحد يملك التدخل في معتقدات غيره أو أعماله.
ومن هذا المبدأ الفردي
تتفرع قيمة إنسانية كبرى
حين يحترم كل فرد حدود مسؤوليته
ولا يفرض وصايته على غيره
يمكن للمجتمع أن يتوازن ويستقيم على العدل.
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ!!!!!!!
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
(سورة : 3 - سورة آل عمران, اية : 128)
إذا كان النبي نفسه
غير مخوّل بفرض العقيدة أو مراقبة السلوك الديني
فكيف بالدولة أو الأفراد أن يتدخلوا في حياة من يختارون مسارًا مختلفًا
كترك الصلاة أو الأكل في رمضان أو حتى الإلحاد
ما داموا لا يضرون الآخرين؟
هكذا يرسخ النص القرآني مبدأ الحرية الفردية الكاملة
ويجعل احترامها أساسًا لبناء مجتمع منسجم منصف.
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
فَإِنْ عَصَوْكَ
فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
(سورة : 26 - سورة الشعراء, اية : 215 - 216)
يأمر القرآن النبي أن يخفض جناحه للمؤمنين
لكن إن عصوه فليعلن براءته مما يعملون.
أي أن مسؤوليته تقف عند حدود التبليغ
ولا تمتد إلى التدخل في أفعال الآخرين أو عقائدهم.
وهذا المبدأ يرسّخ قاعدة إنسانية عميقة
لا يجوز للدولة ولا للأفراد أن يفرضوا وصايتهم على ضمائر الناس
بل لكل إنسان حرية اختياره ومسؤوليته أمام الله.
هكذا يقدم النص القرآني نموذجًا قيميًا
يحمي الحرية الفردية
ويؤسس لمجتمع متوازن قيميًا وأخلاقيًا.
فَأَعْرِضْ عَنْ
1- مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا
2- وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
(سورة : 53 - سورة النجم, اية : 29 - 30)
يوجّه القرآن النبي إلى الإعراض عمّن تولّى عن الذكر
مؤكدًا أن الله وحده الأعلم بمن ضلّ وبمن اهتدى.
هذا المبدأ يعكس قاعدة إنسانية عميقة
لا يحقّ لأحد أن ينصّب نفسه حَكَمًا على عقائد الآخرين
فالمظاهر قد تخدع
والحقيقة عند الله وحده.
وبهذا يرسّخ النص القرآني
قيمة الحرية في الاعتقاد والسلوك
باعتبارها أساسًا من أسس بناء منظومة إنسانية متوازنة
خالية من الوصاية والإقصاء.
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة : 68 - سورة القلم, اية : 44)
يؤكّد القرآن حدّاً آخر من حدود الحرية
و يدشِّن مبدأً إنسانيًّا مفاده
أن التعامل مع المُخالفين دينيًّا
لا يجوز أن يتحوّل إلى وصاية أو اضطهاد
فالله أعدّ لهم مساره الخاص
والواجب البشري أن يترك المجال للضمائر
وأن يحتكم إلى قيم العدالة والاحترام
في العلاقات الاجتماعية.
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ
إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ
فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(سورة : 31 - سورة لقمان, اية : 23)
الكفر لا يخرج عن كونه خيارًا فرديًا ضمن مسار الاختبار الإلهي
حيث تُسجَّل الأعمال وتُعرض على صاحبها يوم الحساب.
لذلك لا يملك أحد التدخل في اختيار الناس للكفر أو الإيمان
فالله وحده العليم بذات الصدور.
بهذا يرسّخ النص القرآني قاعدة الحرية الكاملة في الاعتقاد
ويُبعد المجتمع عن منطق الوصاية
ليُبنى على الاحترام المتبادل والمسؤولية الفردية.
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
(سورة : 39 - سورة الزمر, اية : 19)
لا يحقّ للنبي التدخل
في مصير من اختار الكفر أو الفساد.
فالجزاء بيد الله وحده
وهو أعلم بالقلوب والأعمال.
ومن هنا يوضح النص القرآني
أن الحرية الفردية في العقيدة والسلوك حق أصيل
ولا وصاية لأحد على ضمير غيره.
وعندما تُحترم هذه الحرية
يُبنى المجتمع على العدالة والاحترام المتبادل
بدل الإكراه والتسلط.
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
(سورة : 6 - سورة الأنعام, اية : 104)
القرآن جاء "بصائر"
ليهتدي بها من أراد النور لمصلحته
أما من أعرض
فإن عاقبة عماه تعود عليه وحده.
فلا أحد يملك
حق التدخل في ضمير غيره
أو فرض الهداية عليه
لأن المسؤولية فردية يوم الحساب.
بهذا يرسّخ النص القرآني
في التعبير ، العقيدة و إتخاد القرارات
ويؤسس لقيم العدل والاحترام
التي تقوم عليها المجتمعات السليمة.
وَإِنْ جَادَلُوكَ
فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
(سورة : 22 - سورة الحج, اية : 68 - 69)
التوجيه واضح
النبي لا يدخل في جدالات فكرية
ولا يفرض رأيه على الآخرين
لأن الحكم النهائي في الخلافات
مردّه إلى الله يوم القيامة.
بهذا يؤكد النص القرآني
أن التعايش بين الناس
يقوم على احترام التنوع الفكري
وترك الحساب لله وحده.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ
لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ
أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
(سورة : 10 - سورة يونس, اية : 41)
النص يضع قاعدة إنسانية راسخة
كل فرد مسؤول عن عمله فقط
ولا يحق لأحد أن يتدخل في عمل غيره
أو يفرض وصايته عليه.
وبهذا يرسّخ القرآن الحرية الفردية
كشرط أساسي
لبناء مجتمع يحترم الاختلاف
ويضمن العدالة بين الناس.
خلاصة
يؤكّد النص القرآني
أن مسؤولية الإيمان أو الكفر
مسألة فردية بحتة
وأن النبي نفسه
لم يُكلَّف بالوصاية على الناس
ولا بالتدخل في ضمائرهم.
فالحساب مؤجل ليوم القيامة
والله وحده من يعلم السرائر.
وبذلك يرسّخ القرآن
مبدأ الحرية الدينية والفكرية
كقيمة إنسانية أساسية
تمنع الإكراه وتؤسس للتعايش السلمي.
3- إذا لم يعجبك تهكّم الناس على الدّين
ما عليك إلّا تجاهلهم و ليس مقاتلتهم
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ
فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
(سورة : 6 - سورة الأنعام, اية : 68)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ
أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا
فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 140)
في سورتي الأنعام (68) والنساء (140)
يوجّه القرآن
النبيَّ ومن بعده المؤمنين
إلى الإعراض عن الذين يسخرون من الدين
أو يخوضون في الآيات
دون الدخول معهم في جدال أو محاولة قمعهم.
يمنح القرآن حق الخوض في آيات الله
ولا يسمح للنبي ولا لأي إنسان
سلطة التدخّل
لمنع نقد الدين أو الكفر به أوالاستهزاء به،
فالواجب ليس فرض الصمت بالقوة
بل ترك المجلس حتى يتغير الحديث.
وهذا يعني أن القرآن يعترف بحرية التعبير
في نقد المعتقد الديني !!
4- السلام للجميع كيفما كانت عقيدتهم
A-
وَقِيلِهِ
يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
وَقُلْ سَلَامٌ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
(سورة : 43 - سورة الزخرف, اية : 88 - 89)
لا يشرعن القرآن العنف تجاه المخالفين
بل يوجّه إلى التعامل معهم بروح السلم
تاركًا كشف الحقيقة إلى يوم الحساب.
وهنا يظهر أن مبدأ السلام
قيمة إنسانية شاملة في القرآن
تشمل المؤمن وغير المؤمن على حد سواء.
ومن هذا المنطلق
فإن دور الدولة القرآني
ليس فرض معتقد بعينه
بل ضمان الأمن والسلام لكل مواطنيها
مهما اختلفت عقائدهم
ما داموا يسلكون سبيل السلم.
و هذه بعض الآيات
التي تؤكد أن السِّلم هو الأصل في العلاقة بين البشر
وأن الدعوة إليه موجّهة
للمؤمنين
وأهل الكتاب
وغيرهم على السواء.
هذه النصوص تجعل من السلام قيمة مركزية
تتجاوز حدود الدين والمعتقد
لتصبح أساسًا للتعايش الإنساني.
B-
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
(سورة : 2 - سورة البقرة, اية : 208)
C-
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا
يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ
نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ
سُبُلَ السَّلَامِ
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 16)
D-
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
(سورة : 43 - سورة الزخرف, اية : 89)
E-
فَلَا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
(سورة : 47 - سورة محمد, اية : 35)
ترسم الآيات
ملامح منظومة قرآنية
تجعل من السلام قيمة عُليا:
1-
فهي تدعو المؤمنين
إلى الدخول في السِّلم كافة
دون استثناء.
2-
وتبيّن أن القرآن نفسه
نور يهدي إلى "سبل السلام"
ويُخرج الناس من الظلمات إلى النور.
3-
كما تطلب من النبي الصفح
والاكتفاء بالسلام تجاه من يخالفونه.
4-
وأخيرًا، تحثّ على الثبات في الدعوة إلى السلم
باعتباره الطريق الأمثل للحياة المشتركة.
إن هذا التوجيه القرآني
يجعل السلام قاعدة لا استثناء
ويؤكد أن بناء مجتمع إنساني متوازن
يبدأ من الاعتراف بالآخر
وتغليب السلم على العنف
والتعايش على الإقصاء.
F-
و هذا حديث من باب الثقافة العامّة فقط
يؤكّد مبدأ السلم في التعامل مع الجميع
قال رسولُ اللهِ في حجَّةِ الوداعِ
ألَا أُخبِرُكم
1- بالمؤمنِ: مَن أمِنه النَّاسُ على أموالِهم وأنفسِهم
2- والمسلمُ
مَن سلِم النَّاسُ مِن لسانِه ويدِه
3- والمجاهدُ: مَن جاهَد نفسَه في طاعةِ اللهِ
4- والمهاجرُ: مَن هجَر الخطايا والذُّنوبَ
الراوي : فضالة بن عبيد | المحدث : ابن حبان | المصدر : صحيح ابن حبان
الصفحة أو الرقم: 4862 | خلاصة حكم المحدث : أخرجه في صحيحه
حديث ينسجم تمامًا
مع روح القرآن
التي تجعل السلام قيمة مركزية
في بناء العلاقات الإنسانية.
ومع ذلك
وبغضّ النظر عن صحته
يظل المقياس الأصيل
هو ما يقرره القرآن نفسه
لأنه المرجع الذي لا خلاف على صدقيته.
خلاصة
المبدأ الثاني من العلمانية
كما يظهر في النص القرآني
هو حماية حرية المعتقد والعيش الكريم للجميع.
فقد كان القرآن يوجّه النبي الحبيب
إلى صون أهل الكتاب
واحترام دياناتهم
بل ودعوتهم لتفعيل كتبهم على أرض الواقع
دون أن يطالبهم بتركها
أو اعتناق الإسلام
لأنهم جزء من المنظومة الإيمانية نفسها.
هذه الروح القرآنية
التي تعترف بالتعدد وتمنع الإكراه
لا نجدها مجسَّدة في أي نظام
سوى في
العلمانية الحقيقية
التي تلتقي مع القرآن
في حماية المعتقدات
وضمان الكرامة الإنسانية للجميع.
والنتيجة الطبيعية لهذا المبدأ
هي تطوّر المجتمعات
لأن الحرية الدينية والفكرية
تُطلِق طاقات الناس
وتفتح أمامهم سبل الإبداع والتقدم.
D- يضمن القرآن مبدأ المساواة
بين الناس
كيفما كانت عقيدتهم.
المبدأ الأخير
الذي يبرزه النص القرآني
وينسجم مع العلمانية
هو مبدأ المساواة بين الناس
مهما كانت عقائدهم.
فالعلمانية، مثل القرآن
تُحيل السلوكيات الفردية المبنية على التراضي
إلى ساحة الحساب الإلهي
ولا تسمح لأي مخلوق
أن يتأله
فيحكم على ضمائر الآخرين.
إنها نظام يحمي الكرامة الإنسانية
ويضمن أن لا تتحول
العلاقات الخاصة
أو الاختلافات الفكرية والدينية
إلى مبرر للإذلال أو العنف أو التمييز.
بهذا تُصبح المساواة أساس التعايش
والعدالة قاعدة القانون
فلا يُقصى أحد بسبب عقيدته
أو اختياراته الشخصية.
A-
- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
- وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا
==> أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
- وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا
==> مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا
وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(سورة : 8 - سورة الأنفال, اية : 72)
تُبرز الآية دقة الرؤية القرآنية
في بناء المجتمع الجديد
حول الولاء السياسي لا الديني.
فقد جمعت
بين
المهاجرين الذين آمنوا بنبوة محمد
وبين
الذين آووا ونصروا
مع أن كثيرًا منهم
لم يكونوا بالضرورة مؤمنين
وقررت أن
بعضهم أولياء بعض.
أي أن وحدة المجتمع
كانت أسمى من وحدة المعتقد.
وفي المقابل نفت الولاية عن المؤمنين
الذين لم يهاجروا إلى الدولة الناشئة
فلا نصرة لهم ولا حقوق سياسية
إلا إذا أصبحوا جزءًا من هذا الكيان.
وهكذا يضع النص القرآني قاعدة واضحة
الولاء للوطن والمجتمع هو الأساس
واحترام المواثيق والعهود
مقدّم حتى على الاعتبارات الدينية.
إنها رؤية تؤسس لمجتمع متماسك ومتآزر
حيث تتعايش أطيافه المختلفة
على قاعدة المواطنة المشتركة
وهو عين ما تدعو إليه العلمانية الحديثة
أن يكون الولاء للأرض والميثاق العام
لا للمعتقد الخاص.
و بالتالي
تُحفظ المواثيق
ويزدهر التعايش بين مختلف المكونات
وتتوجّه الجهود المشتركة
إلى البناء والتقدم
بدل التنازع والإقصاء.
إنه أساس مجتمع قوي
متماسك
قادر على مواجهة التحديات
وتحقيق الرخاء لجميع أفراده.
B-
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(سورة : 60 - سورة الممتحنة, اية : 8)
يؤكد القرآن
مبدأ المعاملة بالبرّ والقسط
مع كل من لم يقاتل ولم يعتدِ
مهما كانت عقيدته
"أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
هذا التوجيه العملي
يرسّخ قاعدة المساواة في الحقوق والمعاملة
ويجعل معيار التعامل
هو السلم لا الانتماء الديني.
وهكذا قدّم النبي نموذجًا أخلاقيًا راقيًا
في تعامله مع المسالمين من مختلف المعتقدات
ليبرهن أن النص القرآني
يدعو إلى مجتمع تسوده العدالة
والبرّ بين الجميع بلا تمييز.
C-
فَلِذَلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ
وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ
اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ
لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
(سورة : 42 - سورة الشورى, اية : 15)
يأمر الله نبيّه أن يقيم العدل بين الناس جميعًا
"وأُمرت لأعدل بينكم"
مع تأكيد أن الحساب عند الله وحده
"لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ".
هذا المبدأ يرسّخ أن المساواة
لا تقوم على العقيدة أو الانتماء
بل على السلم والعدل في التعامل.
وهكذا يجعل النص القرآني
العدل
قيمة مشتركة فوق كل الاختلافات
ويضع مسؤولية الدولة في ضمان المساواة بين مواطنيها
مهما كانت دياناتهم وأفكارهم
تاركًا أمر الحساب إلى الله.
والنتيجة الطبيعية لهذا المبدأ
هي بناء
مجتمع يسوده الاحترام المتبادل
ويستقيم على قيم العدل والحرية
التي تضمن توازنه وتماسكه.
D-
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
(سورة : 49 - سورة الحجرات, اية : 13)
يوجّه القرآن الخطاب إلى الناس جميعًا
مؤكّدًا أن
الاختلاف في الشعوب والقبائل
غايته التعارف لا الصراع
وأن معيار الكرامة عند الله هو التقوى
لا الانتماء ولا القوة.
هذا النص يرسّخ قيم المحبة والسلم والكرم
بدل الحرب والإكراه
ويجعل من التعارف المتبادل
أساسًا للتعايش الإنساني.
والنتيجة الطبيعية لهذا المبدأ
أن يقوم المجتمع على الاحترام والمساواة
بين جميع مكوناته
فيتحقق العدل والتوازن
الذي يحميه من الانقسام والظلم.
E-
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
وَلَا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ
لَسْتَ مُؤْمِنًا
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 94)
ينهى القرآن المؤمنين
عن التسرّع في الحكم على الناس أو استهدافهم
بدافع ديني
طمعًا في مكاسب دنيوية
مؤكدًا أن من ألقى السلام
لا يجوز نفي إيمانه أو استباحة حقه.
هذه الآية تقطع الطريق
على الغزوات والتوسعات التي تتذرع بالدين
كما ترفض التمييز بين البشر على أساس العقيدة
لتجعل السلام هو الفيصل في التعامل.
وبهذا يضع النص القرآني
قاعدة إنسانية لحماية الاستقرار والعدل داخل المجتمعات
ويجعل السلم أولوية
تتقدم على كل أطماع الدنيا.
خلاصة
لقد أثبت محكم التنزيل
أن النظام الذي أرساه محمد عليه السلام
كان نظامًا شوريا
يقوم على قيم الحرية والمساواة
و الاحترام المتبادل
في انسجام واضح مع المبادئ
التي تقوم عليها العلمانية.
غير أن هذا النهج لم يدم طويلًا
إذ ما إن توفي النبي الحبيب
حتى ظهرت أحكام تشريعية (ديانات بالآلاف)
نُسبت إلى ذلك الدين الواحد(الإسلام)
وفُرِضت سياسيًا على الناس
مثل بتر يد السارق ورجم الزاني
وقتل المرتد وتشريع الغزوات والجزية.
هذه التشريعات كانت في جوهرها
استجابة لأطماع توسعية ورغبات سلطوية
لا امتدادًا للمواعظ الإلهية في النص القرآني
الذي جاء ليؤسس لمجتمع عادل ومتوازن.
4- لا وجود لقوانين الدّولة
في الحديث و الفقه
حين اقترب أجل النبيّ الحبيب
لم يُعيّن خليفة
ولا أوصى بنظام حكم معيّن،
وكأنّما أراد أن يترك للناس
حرية تقرير شؤونهم السياسية
بحسب ما يقتضيه زمانهم ومكانهم.
ولو كان الدين مشروع دولة
لكان الأولى أن يضع أسسها قبل رحيله.
ومع ذلك
جاء الحديث والفقه لاحقًا
ليُحاكما أدقّ تفاصيل الحياة الشخصية:
- كيف تتوضأ وتغتسل وتستنجي؟
- كيف تدخل الخلاء؟ وبأي عدد من الأحجار تنظّف نفسك؟
- كيف تشرب الماء؟ واقفًا أم جالسًا؟
- كيف تمارس الجماع؟ وما حقوق الزوجة والزوج؟
كل هذه التفاصيل مُحكمة ودقيقة
بينما تغيب تمامًا
أي إشارة
لنظام الحكم
أو دستور الدولة
أو قوانين الاقتصاد والسياسة.
أليس غريبًا أن تُفصَّل طريقة التبول
ويُترك نظام الدولة بلا أثر؟
السبب واضح
الدين ثابت
أما القوانين فمتغيرة.
ولو حُمّل الحديث بتشريعات سياسية مُلزمة
لأصبح الخليفة مجرّد منفّذ لقوانين جامدة لا يمكن تعديلها
ولانتفت سلطته كحاكم مطلق.
لذلك صيغ الحديث
بحيث يمنحه شرعية مفتوحة
ويُبقيه مشرّعًا أوحد
يسنّ ما يشاء ويُلغي ما يشاء
بما يخدم سلطته وأطماعه.
وهكذا تكشف لنا هذه المفارقة
أنّ الدين في أصله
لم يكن مشروعًا سياسيًا ولا دولة
بل رسالة قيمية
تهذّب الفرد
وتترك شؤون الحكم
لتجربة البشر عبر الزمن.
5- مغالطات منطقية يتشبّث بها أصحاب الإختصاص لدمج الدين بالسياسة
1- المغالطة الأولى: كان نبيّنا الكريم يحكم بين الناس بما أنزل الله
و هذا يحطّم مبدأ علمانية الرسول
مغالطة كبرى غيّرت مجرى التاريخ
إذ فتحت الباب أمام بعض الانتهازيين
ليتسلّقوا إلى الحكم باسم الدين.
غير أنّ العودة إلى آيات القرآن الكريم
ذلك الكنز الإلهي الثمين
كشفت لي حقيقة مغايرة تمامًا
فكانت صدمتي أمامها عظيمة.
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
.....
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
.....
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 44 - 48)
تبدو في الوهلة الأولى
خلطا للدين بالسياسة
آيات أُخرجت عن سياقها
بهدف إقامة دولة دينية
التشريعات البشرية الدّينية قد تصيب و قد تخطئ!
لكنّ خطرها يكمن في تقديسها
جواب
A- ما هي الأشياء التي يطبّق فيها الحكم بما أنزل الله حسب القرآن؟؟؟؟؟
1-
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 65)
يحكم نبيّنا الكريم في الشجار الذي وقع بينهم
2-
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ
وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(سورة : 2 - سورة البقرة, اية : 213)
الحكم بين الناس بالكتاب
في الإختلاف
3-
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
(سورة : 42 - سورة الشورى, اية : 10)
حكم ما إِختُلف فيه إلى الله
في كتابه الذي أنزل
4-
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ
وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 59 - 60)
بما أنّ
و هي مسألة شخصية بين العبد مع خالقه
فإنّ الردّ في النزاع يكون أيضا بما أنزل الله لرسوله
من الآيات الأربع يظهر جليا
أنّ الحكم بما أنزل الله
يقتصر فقط على
الشجارات و الخلافات و المنازعات
لنرى الحكم عند باقي الأنبياء
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ
إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
(سورة : 21 - سورة الأنبياء, اية : 78)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ
قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ
وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ
(سورة : 38 - سورة ص, اية : 22)
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
والعبرة الملفتة للانتباه في هذين المثالين
أنّ الملوك حكموا في الخصومات والمنازعات
ولم يرد أبدا في القرآن أنّهم حكموا في أمور السياسة.
لم ينتبه أحد طيلة 15 قرن
كان الرسول الحبيب والرسل من قبله
يحكمون بما أنزل الله في الشجارات والخلافات والمنازعات والخصومات فقط
وليس في أمور السياسة التي تُتّخذ فيها قرارات بالشورى.
فمن يمتلك إذن صلاحيات الحكم بما أنزل الله فيها؟
هل هو الجهاز القضائي المستقلّ بقوة القانون أم الجهاز السياسي؟
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة
من يمتلك صلاحية الحكم بما أنزل الله؟؟؟
الجهاز السياسي أم الجهاز القضائي؟؟؟
لنكتشف سويا حقيقة الحكم بما أنزل الله
المخفية بعناية منذ قرون !
B- تعريف السياسة و القانون و الفرق بينهما
a- تعريف السياسة
توزيع النفوذ والقوة مع تدبير رعاية ومعالجة شؤون الدّولة أو نظام معين
في الداخل وفي علاقاتها مع الخارج
عن طريق إتخاذ قرارات ملزمة لكل المجتمع
تتناول قيما مادية ومعنوية.
عرّفها ديفيد إيستون بأنّها تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة.
b- تعريف القانون و القضاء
القانون عبارة عن مجموعة من القواعد
التي وضعت عن طريق السلطة التشريعية
لتنظيم سلوك الأفراد في المجتمع تنظيما ملزما
وتعاقب مخالفها عند الاقتضاء
كفالة لاحترامها
يعرف السيد الخوئي القضاء
بانه فصل الخصومة بين المتخاصمين
والحكم بثبوت دعوى المدعي او بعدم وجود حق له على المدعى عليه
و القضاء عبارة عن الولاية على الحكم
في الدعاوى ، في الدعاوى، والمنازعات، وفي الامور العامة.
c- أهمّ فرق بين السياسة و القضاء
- في السياسة تُتّخد قرارات
إما بالتشاور و تسمى ديموقراطية
أو بالإكراه و تسمى ديكتاتورية
- في القضاء تَصدُر أحكام
و هناك فرق شاسع بين الإثنين!!!!!
كما أن السلطة القضائية
مستقلة عن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية
وتؤكد مفوضية الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان على ذلك في 7 بنود:
1-
تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية
وينص عليه دستور البلد أو قوانينه.
ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات
احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية.
2-
تفضل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز
على أساس الوقائع ووفقا للقانون
ودون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات
أو تدخلات مباشرة كانت أو غير مباشرة
من أي جهة أو لأي سبب.
3-
تكون للسلطة القضائية الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائي
كما تنفرد بسلطة البت فيما إذا كانت أية مسألة معروضة عليها للفصل فيها
تدخل في نطاق اختصاصها حسب التعريف الوارد في القانون.
4-
لا يجوز أن تحدث أية تدخلات غير لائقة، أو لا مبرر لها
في الإجراءات القضائية
ولا تخضع الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لإعادة النظر.
ولا يخل هذا المبدأ بإعادة النظر القضائية أو بقيام السلطات المختصة
وفقا للقانون
بتخفيف أو تعديل الأحكام التي تصدرها السلطة القضائية.
5-
لكل فرد الحق في أن يحاكم أمام المحاكم العادية
أو الهيئات القضائية التي تطبق الإجراءات القانونية المقررة.
ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية
لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة حسب الأصول والخاصة بالتدابير القضائية
لتنتزع الولاية القضائية التي تتمتع بها المحاكم العادية أو الهيئات القضائية.
6-
يكفل مبدأ استقلال السلطة القضائية لهذه السلطة
ويتطلب منها أن تضمن سير الإجراءات القضائية بعدالة
واحترام حقوق الأطراف.
7-
من واجب كل دولة عضو أن توفر الموارد الكافية
لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة.
المصدر: الموقع الإلكتروني لمفوضية الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان:
https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/basic-principles-independence-judiciary
لنرى الآن كيف يتمّ الحكم
بما أنزل الله
C- ماهي طبيعة الحكم بما أنزل الله
من القرآن؟؟؟؟؟
1-
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
a- أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
b- وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ
أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 58)
تبيّن الآية أن جوهر الحكم
هو أداء الأمانات إلى أهلها
وإقامة العدل بين الناس دون تمييز.
ومن أعرض عن هذا النهج القرآني
فهو فاسق أو ظالم
أو كافر بمعنى الاستكبار والإنكار
لا بمعنى تبديل العقيدة.
2-
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنْ كِتَابٍ
وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ
اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ
لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
(سورة : 42 - سورة الشورى, اية : 14 - 15)
هذه الآيات ترسم ملامح واضحة
لطبيعة الحكم بما أنزل الله
الاستقامة والعدل بين الناس
لا السيطرة على ضمائرهم
أو فرض العقائد عليهم.
فقد أمر الله نبيَّه أن يحكم بالعدل
مع الاعتراف بحرية كل إنسان
في اختياراته وأعماله
وأن يكتفي بإعلان إيمانه بما أنزل الله من كتاب
دون إلغاء قناعة الآخرين.
فلكل فرد حجته التي يقتنع بها
ولا مجال لفرضها على غيره
إذ إن الفصل النهائي بين المختلفين
مؤجَّل إلى يوم الحساب
لا إلى محاكم الدنيا
ولا إلى سطوة من يدّعون امتلاك وكالة إلهية.
3-
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ
فَإِنْ جَاءُوكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا
وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 41 - 42)
الآية تضع خطًّا فاصلاً
بين مقام الحكم وحرية المعتقد
فالنبي مأمور أن يحكم بين الناس
بالقسط إذا لجؤوا إليه
أما إذا أعرض عنهم فلن يضره شيء.
رابط لترتيل كلمتي العدل و القسط
1- الحكم بالقسط هو الحكم بين الناس بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه
لتفادي وقوع المشكل أو الإختلاف
l'équité / l'impartialité
إعطاء حقوق الناس كاملة غير منقوصة
حتّى لا يحصل المشكل من الأصل !!!!!
يعتبر قسطا من طرف إلى آخر !!!!!
فعندما أقسط الى اليتيم
يعني أن أقوم على أموره
وأعطيه حقه وزيادة.
فالبائع يجب أن يقسط في الميزان
و لا يغش في الميزان
2- الحكم بالعدل يكون بعد وقوع الإختلاف
La justice
هو إيجاد حلّ بعد حصول المشكل
بإعطاء كل ذي حق حقه
دون ميل لطرف على حساب الآخر.
عدلت بين زيد و عمر
لا أميل لا لزيد و لا لعمر
الفرق بين القسط و العدل
القسط
يكون في القسمة و المعاملة
==> يكون بالفعل
==> يكون بالميزان
==> يمكن أن يكون من شخص لشخص آخر
أما
العدل
فيكون في الحكم
==> يكون بالقول
==> يكون بالحق
==> يتوجّب وجود حاكم عادل
يحكم بين شخصين أو أكثر
4-
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
(سورة : 4 - سورة النساء, اية : 105)
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بالحقّ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
في كتابه العزيز
و ليس
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بالحقّ بِمَا تَهوى الأنفس
هذه الملاحظة الجميلة للمتابع الكريم على قناة يوتوب
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 48)
الحكم بالحقّ و عدم الإنحياز
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
(سورة : 38 - سورة ص, اية : 26)
تخبرنا هذه الآيات البينات
بأن الرسل عليهم السلام
كانوا يحكمون بين الناس بالقسط والحقّ.
الحكم بما أنزل الله من القرآن
هو الالتزام بالعدل والقسط والاستقامة والحق
دون أي انحياز أو تمييز.
هذه المبادئ القيمية لا تتناقض مع العلمانية
بل تنسجم معها تمام الانسجام
لأن العلمانية بدورها
تجعل ميزان الحكم
قائمًا على المساواة والإنصاف
لا على المعتقدات أو الانتماءات.
D- يحكم كلّ قوم من أهل الكتاب بكتابهم و لا يحكمون بالقرآن
و بما أنّ الرسالة واحدة و الذكر واحد
فإنّ أهل الكتاب سيحكمون بالعدل أيضا
كيفما كان كتابهم
1-
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ؟
وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ
ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 43)
2-
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
(سورة : 5 - سورة المائدة, اية : 47)
أمر الله أهل التوراة والانجيل بالحكم بما أنزل الله في كتبهم
بدون أن تكون لهم دولة خاصة بهم
فهم كانوا جزءا من الوطن
وليس كلّ الوطن.
هناك فرق شاسع بين الحكم و الملك
1-
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ
فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً
تَمْلِكُهُمْ
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
(سورة : 27 - سورة النمل, اية : 22 - 23)
2-
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ
ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
(سورة : 38 - سورة ص, اية : 17 - 20)
من خلال قصة ملكة سبأ
التي كانت تدير شؤون قومها (النمل: 22-23)
وقصة داوود عليه السلام
الذي شُدِّد مُلكه وأُوتي الحكمة وفصل الخطاب (ص: 17-20)
يتضح أن
الملك في القرآن
يتعلق بإدارة شؤون الدولة وتنظيم المجتمع
بينما الحكم في معناه القرآني
يرتبط بالعدل والقسط بين الناس.
لكنّ الخلط المتعمّد بين "الملك" و"الحكم"
في التراث الفقهي والحديثي
فتح الباب أمام إنشاء دين موازٍ
صنعه شيوخ السلاطين
يقوم على تشريعات دنيوية باسم الدين
ويخدم استبداد الحكّام
بدل أن يعكس مقاصد القرآن.
وهذا التزوير هو ما زلنا نعيش تبعاته إلى اليوم
حين تُستغل النصوص
لتبرير الاستبداد بدل تكريس الحرية والعدل.
خلاصة
1-
لقد تم استغلال آيات الحكم بما أنزل الله
للاستدلال على وجوب
وجود الدولة الدينية
مع أن الحكم في كلّ الآيات
يُراد به القضاء فقط
2-
كان نبينا الحبيب
- يتخد قرارات سياسية مع قومه بالتشاور كما رأينا سابقا
- و يحكم في الخلافات و النزاعات بما أنزل الله
بالعدل و القسط و الحقّ و الإستقامة
مع عدم الإنحياز للخائنين
الفطرة السليمة تمكن أيضا بالحكم بنفس الصفات و المميزات الحميدة
تماما كما أنزل الله
3-
الدين وسيلة لتخليق المجتمع
و من بين آلياتها
التحكيم و الحكم بما أنزل الله
في القضاء المستقلّ عن السياسة
حكم مبني على كل القيم الإنسانية و الكونية
من عدل و قسط و استقامة و حقّ .. إلخ
فهل من تعارض بين
الحكم بما أنزل الله مع العلمانية؟؟؟؟
2- المغالطة الثالثة: الحدود السبعة في الفقه الإسلامي
حد السرقة ، وحد الزنا ، وحد القذف ، وحد البغي ، وحد الحرابة ، وحد الردة ، وحد الشرب
عبارة عن قوانين دينية تثبت بالملموس بأنّ النبي لم يكن علمانيا كما تدّعي
يرجع الفضل في تنبيهي لهذا التساؤل
للأخ هشام نوستيك مشكورا
في الحوار المباشر الذي جمعني به
حيث أنني لم اتمكّن من تمرير الإجابة الوافية و الصحيحة
لهذه المغالطة المهمّة و التي اثرث على مجريات التاريخ
رابط للحلقة كاملة بعنوان علمانية الرسول
ستجدون الجواب كاملا في هذا الرابط
حدود الله بين القرآن و الفقه البشري
3- المغالطة الرابعة: العبودية تتعارض مع العلماية
التي تحث على المساواة بين الجميع (المبدأ الثالث)
+
حقيقة العبارة القرآنية ما ملكت أيمانكم
4- هل تحارب العلمانية الإسلام فعلا؟؟
5- العلمانية نظام كافر و فاشل لأنّه
6- تناول الخمور في الدولة العلمانية
يتسبّب في أضرار مادّية و معنوية جسيمة
8- الدول العلمانية سيطرت على العالم
قامت باستعمار الدول الفقيرة و استغلال مواردها
9- الحرّيّات الفردية تفسد المجتمع
خاتمة
الدولة الدينية تُقام على ما يُسمّى "حقوق الله"
بينما الدولة الطبيعية
لا تقوم إلا على حقوق الإنسان
لأنه هو من يعيش داخلها
لا الله الغنيّ عن العالمين
كما عبّر عبد الرزاق الجبران بعمق.
لقد جعل القرآن غايته الكبرى
العدل والعمل الصالح والإحسان
وهي القيم التي تسعد بها البشرية
أما التفاصيل التشريعية
فقد تركها لتُضبط عبر القوانين الوضعية
المنبثقة من نظام شورى ديمقراطي
يتناسب مع متغيرات الزمان والمكان.
غير أن التيار المحافظ حوّل هذه التفاصيل
إلى دينٍ مقدّس
وفرضها على الناس باسم الله
ففسد المجتمع وضاعت القيم.
يرفضون
العلمانية اليوم
لأنها لا تخدم مصالحهم
لكنهم لو تدبّروا القرآن حقًّا
لاكتشفوا أنّ الدولة التي ينادون بها باسم "الإسلامية"
هي في جوهرها دولة علمانية
لأنها تقوم على الحرية، والمساواة، والشورى
وعدم الإكراه في الدين.
ولعلّ أجمل ما يلخّص روح هذا الفهم
قول الإمام أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة
حين سُئل: ما الوطن؟
فأجاب: حيث أقيم شعائري
وأقول رأيي بلا خوف
يكون وطني.